الأربعاء، 16 فبراير 2011

وقفات أمام تاريخنا 1

مدخل ضريح الشهيد عيسى الوكواك بمدينة المرج


(عيسى الوكواك ..أمانة العرض)*

بقلم / عبدالله الشلماني ..
صادف أنني كنت صباح الأمس ماراً بسيارتي بالقرب من إحدى المدارس الثانوية للبنات بمدينتي ( مدينة المرج ) ..وإذا بي – وفي الأثناء – أشاهد مجموعة من الشباب وهم مجتمعون واقفين على ناصية الشارع قبالة المدرسة ، مترصدين للفتيات الخارجات من المدرسة بغرض معاكستهن واللحاق بهن ومضايقتهن بالكلمات النابية والخادشة للحياء والبعيدة عن مروءة الرجال الشرفاء .. فأثّر ذلك المشهد المحزن في نفسي تأثيراً بالغاً .. وشعرت بضيق كبير لا يمكنني وصفه بالكلمات مهما كانت بليغة .. إنه شيء مخجل .. أن يكون شباب ليبيا هكذا .. مائعون .. لا هدف لهم ولا رسالة .. لم تكن هذه الأخلاق الذميمة من شأن الليبيين ولا من طبائعهم في يوم من الأيام ..
في اليوم ذاته ، وقبل أن أنتهي من ذات المشوار بالسيارة ، مررت بعد هذا المشهد المؤلم بضريح المجاهد الليبي البطل (عيسى الوكواك) .. ذلك المرجاوي المغوار .. ذلك الشاب النادر المثال .. لست أدري ما السبب الذي دفع بي لأن أقف بسيارتي قبالة باب الضريح .. تأملت الضريح ملياً .. تساءلت : أين شبابنا الذين رأيتهم قبل قليل من شاب مثلك يا عيسى الوكواك ؟ .. يا له من فرق شاسع .. لقطات وومضات من سيرة ذاك الفتى الرائع أخذت تتداعى إلى ذاكرتي .. أجل .. إنه عيسى الوكواك .. الذي قبض عليه الإيطاليون الغزاة عام 1915 م .. عندما كان فتىً يافعاً يتسوق مع ابن عم له في سوق الظلام بمدينة بنغازي .. فخيّرهما الإيطاليون بين أن يتم تجنيدهما إجبارياً في الجيش الإيطالي ، أو أن يتم نفيهما خارج البلاد .. فآثر عيسى البقاء في أرض الوطن إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً .. بينما اختار ابن عمه النفي ، فقذف به وسط أمواج البحر المتلاطمة في جزيرة (سيراكوزا) الإيطالية النائية عن الأهل والوطن ..
ويتمرد الوكواك على جلاديه وظالميه ، فبعد أن أتقن فنون العسكرية والحرب والقتال ، وأجاد اللغة الإيطالية بطلاقة عجيبة ، يتحول الوكواك بعد أن هرب من معسكر الغزاة إلى رجل للمهمات الخاصة (كوماندوز) ، يقطع سبل الراحة والهدوء والسكينة عن أعين وقلوب المستعمرين القتلة البغاة .. وذلك ضمن سلسلة من الأحداث الدرامية المثيرة والملهبة للحماس ، والتي انتظمت في ملحمة طويلة مشرفة لكل شاب في ليبيا وفي كل أرض الإسلام ، لا يتسع المقام لسردها الآن كاملة .. والتي انتهت باستشهاده شنقاً عل أيدي الإيطاليين في آخر المطاف .. وسأكتفي من مجمل سيرة عيسى الوكواك العطرة بمشهد واحد ، يصب في خانة ما أشرت إليه عند بداية المقال من أخلاق المروءة عند الرجال العظماء ..
إنه ذلك المشهد الذي يبتدئ بزيارة الشهيد البطل عيسى الوكواك لأحد أبناء عمومته من قبيلة (العرفة) المجاهدة ، والذي كان يسكن منطقة قاريونس بالقرب من بنغازي .. يأتي الوكواك المطلوب الأول للسلطات الإيطالية متسللاً ومتخفياً إلى بيت ابن عمه .. وفي حديث سمر بين الإثنين ، يخبره ابن عمه عن جارٍ له في قاريونس ، وهو ذاك الشيخ الكبير السن الضعيف الجسد ، الذي يتجرع مرارة المهانة كل يوم ، لأن له بناتٍ يخرجن كعادة بنات ذلك الجيل من الفتيات الليبيات من أجل إحضار الحطب للبيت ، فيتعرضن يومياً لمضايقات الجنود الإيطاليين عند كل ذهاب وإياب .. والأب العاجز المسكين لا يملك حيال ذلك صرفاً ولا عدلاً .. وهنا تلتهب ألسنة نيران الغضب ، وتستعر المروءة والشهامة في صدر ذلك الشاب الليبي البطل ، فيتجه من فوره لوالد الفتيات ، طالباً تزويده بمزيد من الرصاصات ، لأن ما معه منها لا يكفي لأداء المهمة التي عقد العزم على إنهائها .. قائلاً له : ( أنا سأريحك منهم وإلى الأبد ) .. ويحصل على الرصاصات التي يريد .. ويجلس منتظراً مع الوالد وبناته قدوم أولئك السفلة المجرمين .. وبعد برهة من الزمن ، يتراءى أربعة منهم للوكواك على خيولهم قادمين من معسكرهم بانتظار خروج الفتيات الطاهرات المسكينات .. ويخرج عيسى الوكواك .. ليرديهم قتلى واحدهم فوق الآخر .. ولتعود خيولهم تعدو إلى معسكرها بدون من كانوا يمتطونها .. ولتزغرد الفتيات فرحاً بعودة الكرامة والثأر للعار ..
سبحان الله .. هأنذا الآن أقف أمام باب ضريح عيسى الوكواك .. أقف هنا الآن متعجباً كيف يمر شباب المرج بهذا الضريح كل صباح وكل مساء ، متناسين هذه الملاحم والبطولات التي سطرها بدمه شاب مثلهم اسمه عيسى الوكواك .. شاب من مدينتهم .. استنشق ذات الهواء الذي يستنشقون .. ومشى فوق ذات الأرض التي عليها يمشون .. يمرون به في طريقهم لمدارس البنات وكلياتهن ومعاهدهن ، لمضايقة أخواتهم والنيل من أعراضهن التي حرمها الله عليهم إلا بالحق .. أتعجب كيف يكون ذلك ؟ .. كيف ؟ .. أما أن يفعل المستعمر الصليبي ذلك فلا عجب .. ولكن العجب كل العجب أن يفعله الليبي بالليبيات .. المرجاوي بالمرجاويات .. الأخ المسلم بالأخوات المسلمات .. أجل إنه والله العجب العجاب ..
*عن كتاب ( ملاحم وأبطال ) . للدكتور فرج عبدالعزيز نجم ..بتصرف.