السبت، 16 مايو 2009

عصفور المقهى ( قصة قصيرة )

( إلى حمد بن رحومة )
( أخي الذي لم تلده أمي )
بقلم / عبدالله الشلماني

( 1 )

... طابورٌ طويلٌ من ( الخرّازين ) السودانيين على الناصية قُبالة المقهى في ساحة سوق (( الجمهورية )) . كلٌ منهمكٌ في ما بين يديه من الأحذية البالية ، محاولاً إصلاح ما أفسده طول المسير . " القهواجي " المصري جالسٌ على صندوق مشروب " البيبسي " الفارغ أمام التلفاز ، يُشاهد موقعةً حامية الوطيس بين الأهلي والزمالك ، في انتظار زبون ربما يدخل طالباً شطيرة " دحي بالتن " ..

كلُ شيءٍ في المقهى يوحي بالعدم .. بالموت .. باللاروح .. جدران متصدعة أكلتها الرطوبة . مناضد ومقاعد بلاستيكية متناثرة بغيرما انتظام . أرضية صلدة من البلاط الخشن سيء الصنع . وبضع اسطوانات غازٍ فارغةً عند الزاوية خلف ضلفة الباب المعدني الصّدئ . وعلى ذات الضلفة من الخارج عبارة مكتوبةٌ هكذا باللهجة المصرية : " خود راحتك يازمن ". لاأثر للحياة هنا .. لانبض ..!. لاألوان ..!. لادفء ..!. الجماد لوحده هو العنوان الذي يختزل الحيِّز واللحظة في آن معاً ..

( 2 )

... فجأةً يتغير كل شيء .! تعود الألوان إلى الصورة الباهتة .. تبتسم الجمادات في المقهى .. ترتعش .. تسري فيها روحٌ خفيةٌ تكاد أن تجعلها تتنفس .. حتى أسلاك الكهرباء المتشابكة في فوضىً عارمة والمتدلية من مؤخرة السقف ، توشك أن تتحول إلى أغصان نضرة لعريشةٍ حُبلى بالعناقيد . كل هذا حدث أمامي في لحظةٍ واحدة . لحظةَ أن ولج إلى المقهى كائن صغير بحجم قبضة اليد .

( 3 )

هكذا هي بعض الكائنات .. تُحيل الجحيم إلى جنةٍ بمجرد حلولها فيه . والعكس صحيح .. " الفضيل بوراغب " ، ذلك العجوز من مدينة (( مطروح )) ، والذي عمل ردحاً من الزمن راعياً لقطيعنا , يعتبر من تلك الكائنات التي تبعث الحياة في الأشياء . في ذلك اليوم منذ أعوامٍ خلت رأيته يفعل ذلك .. يومها ، إستأجرنا شاحناتٍ مخصصةً لنقل المواشي لكي تنقُل قطيعنا إلى الصحراء الجنوبية . هرباً من صقيع شتاء الساحل وطلباً للكلأ في تلك التخوم .

حين وصلنا إلى هناك ، كانت جلبة نباح الكلاب ، وسِباب سائقي الشاحنات ، والإنهماك في إنزال النعاج والعلف والأمتعة ، والعكوف على بناء الخيمة الصغيرة ، كل ذلك ، شكَّل غلالة سرابية من الغفلة لم ننتبه معها إلى شيء . ولكن .. وفور مغادرة الشاحنات والفراغ من توظيب الأمتعة ، تلاشت تلك الغلالة كاشفةً لنا عن وجه الصحراء القبيح .. حيث أطبق الصمت .. والسكون .. مفسحاً المجال لنشيجٍ مفجعٍ للريح ..

.. الوجوم بدا على الجميع .. حتى النعاج والحملان ، بدا عليها الإحساس بالشجن والغربة ، فأخذت تحدق إلينا ناصبةً آذانها الصغيرة وهي تثغو باستجداءٍ يثير الشفقة . ومما زاد من وحشة المكان ، أُفول قرص الشمس إلى الأفق الغربي وراء التلال المجدبة ، فأضفت العتمة شيئاً من الرهبة على المشهد .. وفجأةً كما في المقهى ، تبدَّى لنا وجه " بوراغب " على وميض ألسنة اللهب .. التي انبثقت من نارٍ طفق يسجرها لإعداد الشاي ، بتجاعيده وابتسامته الودودة التي نادراً ما كانت تفارق مُحياه .
حول النار ، تحلقنا معه نتسامر و نحتسي كؤوس الشاي الأخضر " المنعنع " ونتجاذب أطراف الحديث .. عندها تغير كل شيء .. أُنسٌ غريب بدَّد مااعترانا من وجوم .. عندها فقط .. شعرنا أن الحياة قد عادت إلى الصحراء . وأن شيئاً من الأُلفة والحميمية معها بدأتا تأخذان مكان الرهبة والوحشة . وعندها فقط .. خالجنا إحساسٌ بأن الصحراء قد تبدّلت إلى مروجٍ بهيجةٍ تعبق بالأريج .

( 4 )

إن ذلك العصفور الصغير بحجم قبضة اليد ، والذي راح يزقزق ويتقافز على الأرضية الصلدة ، إستحال معه كل شيءٍ في المقهى إلى فرحٍ غامر . تماماً مثلما استحالت الصحراء مع " الفضيل بوراغب " . وليس ثمةَ من شكٍ أن تلك الصحراء قد رجعت مواتاً ويـباباً كمثل ماكانت عليه حين غاب عنها " بوراغب " منذ سنواتٍ عائداً إلى مطروح .. مبعثُ هذا اليقين عندي ، هو أنني قد رأيت كل شيءٍ في المقهى قد رجع إلى مثل ما كان عليه ، بمجرد أن طار عنه العصفور الصغير مرفرفاً إلى حيث الزُرقة والإتساع ..!!

هناك 8 تعليقات:

غيداء التواتي يقول...

مساء الأنوار أخي عبد الله

قلم يستحق أن نقف له إحتراما منذ زمن لم اقرأ قصص بهذا الجمال يبقى أن اسأل هل طبعت جزء من كتاباتك ؟
تقبل مودتي وأمنياتي للشرق العزيز بالأزدهار فإن لي فيها صلات دم وقربى

غيداء

NuNa يقول...

السلام عليكم سيدي الكريم
عصفورك اخدني الي تلك الصور البداعيه التي كانت في قصدتك الرائعه بطريقة سردها و اسلوبها و اكثر ما عجبني انها من تتزامن مع زمانا...
شعرت بالشجن والغربة و السكون و الصمت الذي عشتموا في الصحراء الي ان ات ذلك العصفور.
اشكرا و متأسف لتعليق المتأحر لاني لم اكون قرات تدوينتك بسرعة.

إرشيف الزمن يقول...

أختي غيداء ..
نور الله مساءاتك بكل خير ..
أعجز عن شكرك لمساندتي ودعمي .. وأحمد الله الذي جعلني وإياك من أبناء هذه الحبيبة الغالية ( ليبيا ) .. تلك المترامية الأطراف مساحة .. ذات الأسرة الواحدة شعباً .. وكأننا جميعاً فيها أطفال نلهو ونتقافز قبل النوم في حجرة دافئة من بيوتنا القديمة .. فأنا لا أستغرب أن يكون لي بك صلة دم أو قربى .. لأنني ما سألت أحداً من أبناء هذا الوطن في يوم من الأيام إلا ووجدت أن بيننا - ولو على أقل تقدير - إسماً نتشارك معرفته أو موضعاً نتقاسم عشقه .. نحن أيتها الأخت العزيزة ( أسرة ) بكل ما لهذه الكلمة من معانٍ للدفء والحب والأمان .. هنيئاً لشرقنا بمحبة غيداء .. وليهنأ غربنا وجنوبنا وشمالنا وكل ذرة تراب من تراب بلدنا بامتلاك قلوبنا .. التي لا نملك سواها كي نهديها إليه .
أما عن نشر كتاباتي فإنني لم أوفق بعد إلى من يقتنع بخربشاتي لينشرها من المؤسسات العامة .. وأما الخاصة فإنها تحتاج المال لكي تنشر .. الأمر الذي يجعلني أستبعد فكرة النشر من رأسي تماماً .
أدامك الله أختاً وسنداً ..
عبدالله .

إرشيف الزمن يقول...

أماني ..
أهلاً بك مجدداً أخيتي ..
سعيد بتواجدك دائماً بجوار كل تدوينة من تدويناتي المتواضعة .. وسعيد بسعادتك لقراءة ( عصفور المقهى ) .. تأكدي أنني لمثلكم فقط أكتب .. أما الذين لا يهمهم أن يتذوقوا الكلمات فلا يهمني رأيهم ..
أريد لهذا العصفور أن يرفرف في قلب كل واحد منا ليبعث فيه الحياه كما بعثها في المقهى الكئيب .
شكراً من جديد ..
لك احترامي ومودتي ..
عبدالله ..

Eng.Ramez Enwesri يقول...

هذه عين الفنان
تلتقط الجمال أينما كان وكيفما حل

تحياتي

إرشيف الزمن يقول...

صديقي الرائع رامز ..
أشكرك ..
واقول :
إن عيناً تتذوق ما تلتقطه عين الفنان من جمال لا تقل عنها فناً ..
أخوك ..

غيداء التواتي يقول...

أخي عبد الله لاغرو إن المبدع مظلوم في مجتمعنا ولكن نحمد الله إن الشبكة وفرت لنا فرصة الأنتشار

سلمت يداك وفي انتظار الجديد

Unknown يقول...

شركة الصفرات لتنظيف الموكيت بالرياض

شركة الصفرات لعزل الخزانات بالرياض

شركة الصفرات لرش المبيدات بالرياض

شركة الصفرات لمكافحة الحشرات بالرياض

شركة الصفرات لكشف التسربات المياه بالرياض

شركة عزل خزانات بالرياض

شركة الصفرات لنقل الاثاث بالرياض

شركة الصفرات لنقل العفش بالرياض