بقلم / عبدالله الشلماني
( الخيبات المتناسلة )
كلمة " باتي " في لهجتنا الدارجة بشمال شرق ليبيا ترادف بالفصحى كلمة " أبي " .. وربما – أقول ربما – تحورت عن كلمة " أبتي " الفصحى أيضاً والتي تحمل نفس الدلالة مع زيادة في معنى التودد للأب والتحبب إليه حين مناداته .. إذاً فكلمة " باتي " في العامية هي كلمة " أبتي " في الفصحى ولكنها ( مبعثرة ) كما يحلو للصحف والمجلات أن تقول في لعبة الكلمات المتقاطعة ..
ما جعلني أتوصل إلى هذا الإكتشاف اللغوي " العظيم " هو طول التأمل في هذه الكلمة عندما كنت جالساً على عتبة بيتنا وسمعت أطفال جارنا يرددونها بمجرد رؤيتهم لسيارة أبيهم قادمة من مدخل الشارع فانطلقوا صوبها كالصواريخ وهم حفاة يعيدونها ويكررونها بصوت جماعي واحد ومموسق على طريقة التقطيع العروضي للشعر :
- ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) .
أي بمعنى : ( أبتي جاء ، أبتي جاء ) .. أجل .. كان هذا هو التحليل اللغوي لما قاله أولئك الأطفال .. لكنني تساءلت بعده عن التحليل " النفسي " لفرحة أولئك الأطفال وعَدْوهم نحو أبيهم بتلك الطريقة العجيبة وعن سر سعادتهم برؤيته قادماً .. وقد أجابني جارنا عندما سألته بهذا الخصوص فكانت إجابته بالنسبة لي اكتشافاً لا يقل عظمة عن " الإكتشاف اللغوي " .. ولكي أجعلكم تعيشون معي الحدث كاملاً فسأعيد الشريط إلى الوراء لنبدأ من البداية :
- ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) .
السيارة تتوقف .. يُفتح باب السائق .. يترجل الأب فيما يتدافع الأطفال إلى الداخل من ذات الباب وفي نفس الوقت تقريباً .. يخفت صخب الأطفال رويداً رويداً ويتلاشى والأب واقف يتأملهم صامتاً .. ينزل الأطفال في صمت أيضاً .. يعود الجميع إلى داخل البيت في موكب صامت .. واجم .. ثمة خيبة أمل بدت واضحة على وجوه الأطفال والوالد معاً .. قبل أن يدخل جارنا لبيته ناديته لأستفهم :
- " بو جار ؟ .. شنو الجو ؟ " .
التفت .. تردد قليلاً .. ثم يبدو أنه حسم الأمر وقرر المجيء نحوي .. همس متنهداً وهو ينفض مكاناً على العتبة ليجلس بجواري :
- " شنو الجو ؟ " .
.. بعد محاورة مقتضبة مع جارنا فهمت أن الأطفال كانوا بانتظاره ليحضر لهم هدايا النجاح بالمدرسة والتي وعدهم بإحضارها فور قبض الراتب .. وهي – للعلم – مجرد ألعاب بسيطة .. بالونات ملونة ومسدسات بلاستيكية لرش الماء لا يفوق ثمنها كلها العشرة دنانير .. وفهمت أنه رجع من المصرف خائباً تماماً كخيبة الأطفال عندما لم يجدوا الهدايا داخل السيارة لأن المرتبات تأخرت في النزول عن وقتها المحدد لأكثر من أسبوع .. دخل جارنا إلى البيت يجر رجليه جراً وقد نودي لتناول الغداء .. وبقيت أنا أفكر وحيداً على عتبة البيت .. تأملت ملياً في سر هذه العبودية المقيتة والرق المخزي للوظيفة في بلادنا .. حاولت العثور على إجابات لتساؤلات كثيرة أخذت ترتسم في ذهني .. خلصت في النهاية إلى أننا – ومع قلة عطائنا وتفانينا – لا نتقاضى من وظائفنا ما يوازي همّ عبوديتنا لها ورِقّنا لراتبها .. لو كان الراتب مجزياً لأمكن لأحدنا على الأقل أن يحتمل " ثقالة " المدير حينما يمارس شعائره وطقوسه الصباحية المعهودة بمجرد أن يرى أحدنا مقبلاً من الباب فينظر إلى ساعته بعين ويغمزنا بالأخرى ممططاً شفتيه :
- " وين ياسيدي ؟! .. هلّ هلالك ! .. صحّ النوم ! .. ) .
علماً بأن السيد المدير لم يكن ليأتي أبكر من الجميع لولا خوف فوات تلذذه واستمتاعه بهذه " الثقالة " .. وكأن السيد المدير نسي – أو تناسى – أن يلوم إضافة للومه أولئك الموظفين " الرقيق " لتأخرهم ، أن يلوم تلك الدولة العاجزة عن توفير وسائل المواصلات العامة الرخيصة والعملية بدل مجيء أغلبهم على الأقدام أو في حافلات " الربع دينار " .. كما نسي أو تناسى أن هذه الدراهم التي يتقاضاها الموظفون أصبحت أضحوكة العالم بأسره ، والذي شهد تضاعفاً للأسعار لعشرات المرات منذ آخر تعديل في القانون الليبي للمرتبات والأجور .. فالسيد المدير في العادة يركب سيارة الدولة ويمونها مجاناً بوقود الدولة وله مصادر مالية أخرى بديلة هي في الأغلب من أموال الدولة .. فكيف تستغرب منه الثقالة إذاً ؟ ..
.. في أثناء استغراقي وإبحاري في هذه الأفكار والخواطر يرن جرس الهاتف النقال في جيبي .. على شاشة الهاتف رأيت اسم زميلي في العمل .. أجبته :
- " آلو .. خير يا .... " .
قاطعني مبشراً إياي وهو يصيح :
- " المرتبات قالوا نزلن اليوم .. والله قالوا نزلن توا .... " .
قاطعته بدوري ضاغطاً على الزر الأحمر الذي ينهي المكالمة .. الفرحة تغمرني .. وقفت .. أخذت طريقي للمصرف وأنا أعدو ولسان حالي يقول :
- " با .. تي .. جا .. " .
.. ثم تذكرت أثناء الجري - وبعد ذهاب سَوْرة الفرح - أن الوقت لا يكفي للوصول إلى المصرف قبل نهاية الدوام .. وأن زميلي لم يعلم أصلاً بقصة إحالتي " للمركز الوطني " منذ أيام .. إضافة إلى أنني لم ألبس " شبشب " النايلون الذي خلعته عند العتبة ممدداً رجلي هناك ..
توقفت .. وعدت من منتصف الشارع أجر رجليّ جراً .. حافياً كما أطفال جارنا .. خائباً تماماً كخيبتهم .. وقبل أن ألج من الباب سمعت صوت جارنا الآخر وهو يناديني محاولاً أن يستفهم :
- " بو جار ؟ .. شنو الجو ؟ ) .
( الخيبات المتناسلة )
كلمة " باتي " في لهجتنا الدارجة بشمال شرق ليبيا ترادف بالفصحى كلمة " أبي " .. وربما – أقول ربما – تحورت عن كلمة " أبتي " الفصحى أيضاً والتي تحمل نفس الدلالة مع زيادة في معنى التودد للأب والتحبب إليه حين مناداته .. إذاً فكلمة " باتي " في العامية هي كلمة " أبتي " في الفصحى ولكنها ( مبعثرة ) كما يحلو للصحف والمجلات أن تقول في لعبة الكلمات المتقاطعة ..
ما جعلني أتوصل إلى هذا الإكتشاف اللغوي " العظيم " هو طول التأمل في هذه الكلمة عندما كنت جالساً على عتبة بيتنا وسمعت أطفال جارنا يرددونها بمجرد رؤيتهم لسيارة أبيهم قادمة من مدخل الشارع فانطلقوا صوبها كالصواريخ وهم حفاة يعيدونها ويكررونها بصوت جماعي واحد ومموسق على طريقة التقطيع العروضي للشعر :
- ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) .
أي بمعنى : ( أبتي جاء ، أبتي جاء ) .. أجل .. كان هذا هو التحليل اللغوي لما قاله أولئك الأطفال .. لكنني تساءلت بعده عن التحليل " النفسي " لفرحة أولئك الأطفال وعَدْوهم نحو أبيهم بتلك الطريقة العجيبة وعن سر سعادتهم برؤيته قادماً .. وقد أجابني جارنا عندما سألته بهذا الخصوص فكانت إجابته بالنسبة لي اكتشافاً لا يقل عظمة عن " الإكتشاف اللغوي " .. ولكي أجعلكم تعيشون معي الحدث كاملاً فسأعيد الشريط إلى الوراء لنبدأ من البداية :
- ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) .
السيارة تتوقف .. يُفتح باب السائق .. يترجل الأب فيما يتدافع الأطفال إلى الداخل من ذات الباب وفي نفس الوقت تقريباً .. يخفت صخب الأطفال رويداً رويداً ويتلاشى والأب واقف يتأملهم صامتاً .. ينزل الأطفال في صمت أيضاً .. يعود الجميع إلى داخل البيت في موكب صامت .. واجم .. ثمة خيبة أمل بدت واضحة على وجوه الأطفال والوالد معاً .. قبل أن يدخل جارنا لبيته ناديته لأستفهم :
- " بو جار ؟ .. شنو الجو ؟ " .
التفت .. تردد قليلاً .. ثم يبدو أنه حسم الأمر وقرر المجيء نحوي .. همس متنهداً وهو ينفض مكاناً على العتبة ليجلس بجواري :
- " شنو الجو ؟ " .
.. بعد محاورة مقتضبة مع جارنا فهمت أن الأطفال كانوا بانتظاره ليحضر لهم هدايا النجاح بالمدرسة والتي وعدهم بإحضارها فور قبض الراتب .. وهي – للعلم – مجرد ألعاب بسيطة .. بالونات ملونة ومسدسات بلاستيكية لرش الماء لا يفوق ثمنها كلها العشرة دنانير .. وفهمت أنه رجع من المصرف خائباً تماماً كخيبة الأطفال عندما لم يجدوا الهدايا داخل السيارة لأن المرتبات تأخرت في النزول عن وقتها المحدد لأكثر من أسبوع .. دخل جارنا إلى البيت يجر رجليه جراً وقد نودي لتناول الغداء .. وبقيت أنا أفكر وحيداً على عتبة البيت .. تأملت ملياً في سر هذه العبودية المقيتة والرق المخزي للوظيفة في بلادنا .. حاولت العثور على إجابات لتساؤلات كثيرة أخذت ترتسم في ذهني .. خلصت في النهاية إلى أننا – ومع قلة عطائنا وتفانينا – لا نتقاضى من وظائفنا ما يوازي همّ عبوديتنا لها ورِقّنا لراتبها .. لو كان الراتب مجزياً لأمكن لأحدنا على الأقل أن يحتمل " ثقالة " المدير حينما يمارس شعائره وطقوسه الصباحية المعهودة بمجرد أن يرى أحدنا مقبلاً من الباب فينظر إلى ساعته بعين ويغمزنا بالأخرى ممططاً شفتيه :
- " وين ياسيدي ؟! .. هلّ هلالك ! .. صحّ النوم ! .. ) .
علماً بأن السيد المدير لم يكن ليأتي أبكر من الجميع لولا خوف فوات تلذذه واستمتاعه بهذه " الثقالة " .. وكأن السيد المدير نسي – أو تناسى – أن يلوم إضافة للومه أولئك الموظفين " الرقيق " لتأخرهم ، أن يلوم تلك الدولة العاجزة عن توفير وسائل المواصلات العامة الرخيصة والعملية بدل مجيء أغلبهم على الأقدام أو في حافلات " الربع دينار " .. كما نسي أو تناسى أن هذه الدراهم التي يتقاضاها الموظفون أصبحت أضحوكة العالم بأسره ، والذي شهد تضاعفاً للأسعار لعشرات المرات منذ آخر تعديل في القانون الليبي للمرتبات والأجور .. فالسيد المدير في العادة يركب سيارة الدولة ويمونها مجاناً بوقود الدولة وله مصادر مالية أخرى بديلة هي في الأغلب من أموال الدولة .. فكيف تستغرب منه الثقالة إذاً ؟ ..
.. في أثناء استغراقي وإبحاري في هذه الأفكار والخواطر يرن جرس الهاتف النقال في جيبي .. على شاشة الهاتف رأيت اسم زميلي في العمل .. أجبته :
- " آلو .. خير يا .... " .
قاطعني مبشراً إياي وهو يصيح :
- " المرتبات قالوا نزلن اليوم .. والله قالوا نزلن توا .... " .
قاطعته بدوري ضاغطاً على الزر الأحمر الذي ينهي المكالمة .. الفرحة تغمرني .. وقفت .. أخذت طريقي للمصرف وأنا أعدو ولسان حالي يقول :
- " با .. تي .. جا .. " .
.. ثم تذكرت أثناء الجري - وبعد ذهاب سَوْرة الفرح - أن الوقت لا يكفي للوصول إلى المصرف قبل نهاية الدوام .. وأن زميلي لم يعلم أصلاً بقصة إحالتي " للمركز الوطني " منذ أيام .. إضافة إلى أنني لم ألبس " شبشب " النايلون الذي خلعته عند العتبة ممدداً رجلي هناك ..
توقفت .. وعدت من منتصف الشارع أجر رجليّ جراً .. حافياً كما أطفال جارنا .. خائباً تماماً كخيبتهم .. وقبل أن ألج من الباب سمعت صوت جارنا الآخر وهو يناديني محاولاً أن يستفهم :
- " بو جار ؟ .. شنو الجو ؟ ) .
هناك 4 تعليقات:
عود محمود أخي عبد الله وزواج ميمون بالذرية الصالحة
اخونا الفاضل الشيخ عبدالله الشلمانى مرحبا بعودتك من جديد الى مدونتك والى اخوتك وارجو ان تقبلنى عضوا زائرا فى مدونتك كما تقبلتنى اخا لك مع تمنياتى لك بالصحة والسعادة"" اخوك طارق الطيرة
هذا حال معظم الليبيين الذين يعيشون فقط على مرتبات الدولة .
عودة موفقة
تحياتي~ ~ ~ ~
إخوتي الأعزاء / غيداء وطارق ومدونة إليكم :
شكراً لكم على تواصلكم ومرحباً بكم من جديد إخوة أحبة ولا أقول زواراً أو ضيوفاً ..
أخوكم ..
إرسال تعليق