الاثنين، 13 أبريل 2009

مذكرات راقد ريح

بقلم / عبدالله الشلماني

هل ألعن الظلام ؟.. أم أوقد شمعة ؟!.

من الأشياء التي استمتع بها في حياتي – وهي قليلة – مشاهدة التلفزيون .. فمشاهدته تأخذني بعيداً وبتلقائية إلى عوالم مختلفة ومتنوعة أهم ما فيها وأجمل ما فيها بالرغم من سماجتها أحياناً أنها لا تشبه عالمي أنا . أجل .. فعالمي أنا مليء بالمنغصات التي من بينها أنني محروم أغلب الأحيان من ممارسة متعتي الصغيرة ( مشاهدة التلفزيون ) بسبب انقطاع التيار الكهربائي المتكرر عن بيتنا .. علماً أننا نسدد الفواتير أولاً بأول .. لكن هذا هو الواقع .. فحق شركة الكهرباء أن تقطع التيار عنا إذا تأخرنا عن السداد . بل من حقها أن تحجز على المرتب أيضاً .. أما حقنا نحن إن سددنا ما علينا فهو الإنقطاع المتكرر ربما لأيام متواصلة .
لازلت حتى اليوم أتذكر تلك الليلة الرهيبة .. كانت ليلة رهيبة وطويلة جداً .. أطول من ليلة سقوط غرناطة كما صورها مسلسل المرحومة ( أمينة رزق ) .. كنت في اليوم الذي سبق تلك الليلة أخطط لقضاء ليلة رائعة . حيث سأقوم فور عودتي من الدوام وتناولي لوجبة ( الدشيشة ) بأخذ قسط من الراحة أصحو منه قبيل صلاة العصر .. لأخذ دش ساخن ينشطني ولأتوضأ وأصلي .. ثم أشاهد برنامجاً حوارياً مهماً بالنسبة لي يتناول موضوعاً يتعلق باختصاصي في العمل .. ولن ينتهي ذلك البرنامج إلا وقد رجعت إلينا أمي من عرس ( بنت عم راجل خالتي ) ومعها قصعة رز كبيرة مغطاة بالعصبان واللحم وكل ما لذ وطاب بناء على وعد لي بذلك من خالتي شخصياً .. وما أجمل الليلة التي يكون العشاء فيها قصعة كتلك القصعة .. لا سيما والحال برد وشتاء وصقيع وأمطار كما هي تلك الليلة .
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن .. فإليكم ماحدث .. رجعت من العمل .. تناولت وجبة الدشيشة .. خلدت إلى النوم .. حتى الآن تسير الخطة على مايرام . غير أن خطتي أخذت منحىً آخر بمجرد استيقاظي .. منحىً سيرسم لكم بيانياً وبشكل محكم أحداث تلك الليلة التي ( إن شاالله ربي ما يورّيها لصاحب ) .. صحوت لأجد التيار الكهربائي وقد انقطع منذ أكثر من ساعتين .. وبناء على ذلك وبعد وقوفي تحت الدش بلحظات قليلة انقطع الماء الساخن فجأة ودون سابق إنذار لتصعقني قطرات الماء المثلّج المنهمرة من الدش صعقةً كدت معها أن أصرخ لولا الحياء .. وبعد أن تقافزت لوقت وجيز وبعينين مغمضتين تحت وابل الماء البارد كالذبابة أصابها ( الفليت ) بحثاً عن مقبض الحنفية ، استطعت أخيراً إيقاف الماء .. وتنشفت سريعاً لأخرج وصوت عطاسي واصطكاك أسناني يصل إلى ( سابع جار ) .. وأؤكد لكم أن عدد العطسات أثناء الصلاة كانت أضعاف عدد التكبيرات فيها ..
فات وقت البرنامج الحواري .. وأنا وحيد ليس ثمة من أتكلم معه .. بدأ الظلام يتسلل إلى أركان وزوايا البيت .. المدفأة الكهربائية معطلة بطبيعة الحال تبعاً لتعطل التيار الكهربائي .. ولا شيء في المطبخ يمكن مضغه ولا حتى كسرة خبز .. الزكام يكاد يفجرني إلى أشلاء كلما عطست مرتعداً من البرد .. الوجوم هو العنوان العريض الذي يختصر توصيف حالتي آنذاك .. حرارتي ترتفع .. فعلاً كان الوضع مأساوياً لولا بصيص الأمل في قصعة الرز بالعصبان .. فهي الحلم الذي كانت تهون معه تلك الحالة المزرية .. في ذلك اليوم فقط أدركت أن الحياة لا يمكن احتمالها لولا الأمل والحلم .. غاب قرص الشمس وراء الأفق مخلّفاً لي شجناً عميقاً جرّاء غيابه ، ذلك أنني لست متأكداً مئة بالمئة أنني سأراه مرةً أخرى خاصة أن قدميَّ عجزتا عن الوقوف لتوديعه من النافذة فوق فراشي بسبب شدة حرارة جسمي المحموم .. قد أموت الليلة من الحمى ولن أره ثانية ..
اللعنة .. هل هذا هو ماخططت له بالأمس .. بالطبع لا .. كنت أسمع جارتنا العجوز بين الفينة والأخرى وهي تسب وتلعن وتقول : ( يا الله .. يا جماعة الضي الله يعطيكم دعوة ) .. أما أنا فكنت أدعو الله مخلصاً أن يمد في عمري حتى أرى أمي مقبلة عليّ بقصعة الرز .. أن أراها فقط ثم لأمُت .. تأخرت أمي .. وطال الليل البارد المظلم .. جوع .. ألم .. عتمة .. وحدة .. ضجر .. شعرت لشدة الحمى بانعدام رغبتي وفقدان شهيتي في القصعة المنتظرة .. انكمشت على نفسي في الفراش لائذاً بالبطانية من البرد والظلام .. وظل دعاء العجوز وسبابها ولعناتها على شركة الكهرباء والعاملين فيها يصل لمسامعي مخترقاً البطانية .. دفء البطانية أضاف على الوضع الكارثي كارثة أخرى وكأن لم يكن ينقصني سواها .. فحمام المياه الباردة عند العصر ونوبة الزكام الشرسه والصقيع الفتاك ، كل ذلك حرك في أسفل بطني شعوراً بضرورة إفراغ حمولة مزعجة من الماء النتن مما يستدعي لزوم النهوض للمرحاض وأنا لا أقوى على ذلك .. فالحمى تصفّد رجليّ والشمعة التي تركتها أمي قبل خروجها موجودة في الحجرة المجاورة و و و .. ( وعطبك عليّ معيشة ) .. كان سباب العجوز لايزال محتدماً .. وفي هذه الأثناء ذكرني سبابها بالمثل القائل : ( بدلاً من أن تلعن الظلام أوقد شمعة ) .. فقررت المسير إلى الشمعة متحدياً الألم والظلام والصقيع والجوع وكل شيء .. فجأة وأثناء السير يحتضنني الجدار بشوق جارف ليقبلني بحرارة بين عينيّ تماماً حتى قدحت أمامي الدنيا بنور ساطع جرّاء الإصطدام ووقعت أرضاً .. ومن حين تلك الليلة الرهيبة وحتى الآن وأنا لازلت أتساءل .. ترى ما هو الأجدى .. أن ألعن الظلام ؟.. أم أن أوقد شمعة ؟!!..

ليست هناك تعليقات: