السبت، 25 أبريل 2009

الدزدان

( أبي .. على ضفاف بحيرة جنيف " سويسرا " )

الدزدان
قصة قصيرة بقلم / عبدالله الشلماني
( 1 )

... أن تجد نفسك بين أشياء قديمةٍ تذكِّرك بماضٍ جميل ، شعورٌ مبهج ، يصعب وصفه أو شرح كنهه بالكلمات .. إلا إذا كان من تتحدث إليه قد عايش ذات الشعور . لقد رحل أبي .. ومع رحيله رحل جانبٌ كبيرٌ من جمال ذلك الماضي . لا أدري لماذا انحسرت الوجوه الطيبة عن الدنيا ؟ ليس فقط أبي .. أنا أعني كل الوجوه الطيبة ؟ تضاءلت مساحات الحنان في القلوب .. أصبح للناس وللأمكنة طابعٌ غير الطابع الأول .. أسفرت أغلب الإبتسامات عن أنيابٍ شرسة .. قبيحة .. الدنيا بدون تلك الوجوه قاحلة .. موحشة .. الليل في غياب تلك الوجوه مخلبٌ ضارٍ يتسلل من تحت الوسادات ، ليغتال السكينة .. لينغرز في الأحشاء مكمِّماً الصرخة أن تفلت .. الصباحات والمساءات متشابهة .. رتيبة .. مجرد اجترار للزمن وللأشياء .. لم تعد الحياة بعدهم مثل ما كانت .
حتى الذين هم حولنا ممن نحبهم ، افترقت بهم الدروب ، وتسربوا داخل تشققات الغياب . دخلت على معادلات معاشهم معطياتٌ جديدة ، صرنا نحن بموجبها خارج تلك المعادلات . لقد رحل أبي .. لأجد نفسي بعده - وأنا في العقد الثالث من عمري - طفلاً يمشي ويتعثر .. يبكي .. يتفرَّس في الملامح من حوله باحثاً عن حبٍ تبوح به النظرات .. يفتقد لحضن دافيءٍ يرتمي فيه عندما يخاف .. للمسةٍ حانية تهدهد نزقه عندما ينفجر متبرِّماً .. طفلٌ يتيم .. وحيد .. يبكي .. يبكي بحرقة .. يطاله الإعياء من طول البكاء .. يريد أن ينام .. أن ينام طويلاً .. لكنه لم ينم .. فهو يفتقد إلى همس ترنيمةٍ ، تعوَّد ألا ينام دون الإنصات إلى صداها يتردد في كيانه ..

( 2 )

.. خطاٌ جسيمٌ طالما وقعت فيه ، عندما كان يثنيني الخجل عن أن أقول لمن أحبهم إنني أحبكم . كثيراً ما تملكتني الرغبة في عناق حبيب .. في تقبيله .. في أن أبذل له مما يعتمل بين جوانحي .. غير أن شيئاً من تقاليدنا وأساليب حياتنا الجافة والمتقوقعة على الذات ، وخجلنا غير المُبرر ، كان يقف دائماً حائلاً سميكاً بيني وبين أن أفعل . فادحٌ وجسيمٌ ذاك الخطأ الذي وقعت فيه عندما لم أفعل . لأن لحظةً أتت عليّ كان فيها الأوان قد فات . كان قد رحل .. غاب .. وما عاد بوسعي بعدها قولُها له . كان عليَّ أن أفعل .. لو كان أبي اليوم هنا لفعلت .. ولكنه ليس هنا .. كل ما بقي من أبي هو صورته المعلقة على الجدار ، مثلما هي على جدران ذاكرتي .. وهذا الصندوق ..

صندوق أبي .. البوابة إلى الماضي الجميل .. أشم منه عطر عباءة أبي ، تلك التي أذكر أنه دثرني بها معه ذات ليلةٍ شتائيةٍ ماطرة .. في داخل الصندوق ، كانت أشياؤه ترقد بسلام .. المصحف ، المسبحة ، ساعة معصمه ، نظارته الطبية ، المروحة المنسوجة من سعف النخيل ، سجلات الدكان ، رسائلُ وسنداتٌ وفواتيرُ قديمة ، و ... والدزدان ..

الدزدان الجلدي الأحمر .. المزركش بأناقة فائقة .. إنه من أهم لوازم رجالات ذلك الزمن .. تساءلت :
- كم من المال دخل تلافيف هذا الدزدان خلال خمسة وسبعين عاماً هي عمر أبي وكم من المال خرج ؟ كم من أفواهٍ فاغرةٍ سد رمقها هذا الدزدان ؟ كم خرجت منه من صدقة ؟ كم من قِرى ضيفٍ ومؤونة عائل ؟ كم من ضحكة فرحٍ مشرقة رسمها هذا الدزدان على شفاه سبعة أطفالٍ وأختهم لحظة أن منح ثمن بدلاتهم الجديدة ليلة العيد ؟ أو ثمن الأقلام والألوان والدفاتر وحقائب المدرسة ؟ وكم رسمها على شفاه أمهم وعمتهم التي لم تتزوج وظلت في بيت أخيها ، عندما خرجت منه قيمة رحلتهما إلى الحج مع أبـي ؟
كم .. وكم .. وكم ؟ واليوم .. هاهو الدزدان يرقد داخل الصندوق بسلامٍ منذ عشر سنوات .. منذ أن أعطانيه أبي حين خرجنا في الصباح سوياً من البيت .. فعدت أنا يومها في المساء إلى البيت وحيداً .. ولم يعد أبي ..


( 3 )


في ذلك اليوم ، شعرت أن المقبرة ليست أبداً بالمكان الكئيب ولا المخيف .. لأنها ضمت بين جنباتها جسد أبي .. الذي سينثر فيها الحب والفرح والبهجة ، مثلما كان يفعل معنا .. لأنه سيحمل إليها معه ما كان يتلوه كل يومٍ من الآيات ، لـيبدد عنها الغربة والظلام والعزلة .. عشر سنواتٍ مرت .. منذ أن غادرنا أبي مع كل ما كان يمثله من معانٍ لكلمة " رجل " .. ليرقد هناك بسلام . وعشر سنواتٍ مرت .. منذ أن توقف الدزدان عن رسم آخر الإبتسامات المشرقة على الشفاه .. ليرقد هنا بسلام ..

.. رغم أن المشيعين كانوا معنا يومئذٍ بالمئات ، إلا أنني لا أتذكر الآن من أصوات تلك المئات ، سوى صوت نشيج ابن أخته المتوفاة ، والذي عاش في بيت أبي طفلاً يتيماً لسنوات ، وصوتٌ آخرُ لم أعرف صاحبه ، سمعته يهتف فيما كان البعض يريد إقصائي شفقةً عليَّ من مشهد الدفن :
- دعوه .. دعوه يُدرج أباه في اللحد ..

لم أعد أتذكر سوى هاتين الومضتين .. وكأنه لم ينزل إلى الأرض يومئذٍ من نور الشمس سوى بؤرتين صغيرتين .. كتلك التي تُسلَّط على ممثل المسرح في المشاهد المعتمة .. إحداهما على ابن عمتي وهو ينتحب .. والأخرى عليَّ وأبي .. فيما كنت أُرتِّب له مضجعه المؤقت . يومذاك .. تعانقنا للمرة الأخيرة .. وافترقنا .. على وعدٍ باللقاء في عالمٍ أرحب .. وأجمل .. وأنقى ..!!

* * *

ليست هناك تعليقات: