السبت، 14 نوفمبر 2009

الساحة الثقافية بخير .. ولكنها تعج بالمتسلقين والأشباه !؟


الساحة الثفاقية بخير .. ولكنها تعج بالمتسلقين والأشباه
حوار لـ ( صحيفة قورينا ) مع : عبدالله الشلماني
في عددها الصادر يوم الإثنين 3/8/2009 م
حاوره / جمال الخراز
هناك أسماء لا نستطيع إلا أن تقف لها إجلالاً وإكباراً رغم قصر عمرها الأدبي والإبداعي بالنظر إلى ما تجود به الساحة الأدبية والثقافية الليبية . ولكن يظل اسم مثل اسم ضيفنا مميزا في كل شيء.. سواء في أفكاره أو أسلوب تناوله أو الغزارة في مفرداته اللغوية . لدرجة تذهلك وتثير إعجاب الجميع .. كيف لا وهو الأديب الشيخ .. رغم أنه لم يتعد الأربعين وقد حصل على العديد من الجوائز المهمة وإنتاجه الأدبي الشعري والقصصي يجد الإقبال والرضا من المتلقي حيثما قدمه .. لهذا سررنا جداً بمقابلته وتقديمه لقراء قورينا وإن كان ليس بالغريب عليهم ..
أستاذ عبد الله الشلماني .. حدثنا عن بدايتك الشعرية لكي تكون مدخلا منطقيا لما سوف نسأله لاحقاً .
- البداية الشعرية ؟
بدايتي الشعرية كانت مبكرة إلى حد ما . ذلك أنني نشأت في أسرة تحب القراءة ولها مكتبة عامرة بالكتب ومن ضمنها دواوين الشعر فتولدت لدي محبة الشعر نتيجة لذلك .. وأول محاولاتي لنظم الشعر كانت في المرحلة الثانوية وهى لم تكن ناضجة بالتأكيد لكونها بداية لطالب قصير الباع وقليل الخبرة والتجربة .
ـ أيهما أقرب إليك الشعر أم القصة ؟
بصراحة ومع شغفي بالشعر كما ذكرت سابقاً إلا أنني أجد نفسي ميالاً للسرد عامة وللقصة على وجه التحديد . ذلك أنني أجدها وإلى حد ما تشبه القصيدة من حيث أنها تستفز الذهن والقريحة لاختزال المعاني والخواطر والأفكار في مساحة محدودة وعلى نحو إبداعي محكم .. لذلك تجدني مقلاً في الشعر على حساب القصة التي أجد نفسي وأثبت نفسي فيها أكثر من غيرها .. القصة كائن جميل .. نعم .. كائن جميل .. إنها مختصرة .. رشيقة .. كالحلم أو كالطيف .. يسري أمامك بسرعة ولكن يترك أثراً جميلاً . هكذا أراها .
ـ هل لديك ديوان مخطوط ؟
أما ديوان فلا .. لكن مجموعة قصصية نعم .. لدي مجموعة قصصية بعنوان " الجري في منطقة الظل " تقدمت بها لنشرها عبر مجلس الثقافة العام .. لكن يبدو أنها أهملت أو أنها لم تلق القبول والاستحسان من القائمين على المجلس .. على كل حال موضوع النشر في بلادنا موضوع شائك طالما تجنبت الحديث فيه لكي لا " يزعل " مني أحد !
- كيف ترى التعامل الأدبي مع المواقع الإلكترونية ؟
لقد كانت المواقع الإلكترونية هى الكوة التى يتنفس منها الكتاب والأدباء الشباب عبر جدار الإقصاء السميك الذي تفرضه عليهم مؤسسات الثقافة الرسمية . على الرغم من تحفظاتي على كثير من تلك المواقع من حيث أنها " لا ترد يد لامس " فتنشر الغث والسمين .. مما صارت معه السلعة الأدبية النفيسة تعرض جنباً إلى جنب مع" أشياء" مضحكة مما ذهب بكثير من بريقها ورونقها .
- كيف تري الساحة الثقافية في ليبيا ؟
الساحة الثقافية عندنا بخير .. لكن المقلق أنها تعج بالمتسلقين والأشباه .. وأنهم وبكل أسف هم من يمثل الساحة في كثير من تجلياتها .. وأنا لا أقصد هنا أحداً بعينه .. لكن عندما تأتي أنت لحضور مهرجان أو تظاهرة وتجلس لتستمع إلى المشاركات التى تم اختيارها دون غيرها سوف تعرف بالضبط ما الذي أعنيه .. وأعدك ـ لو كنت محباً للأدب ـ بأنك سوف تعود لبيتك مريضاً مصاباً بالصداع والاكتئاب .
- كيف تقيم تجربتك الصحفية ؟
بصراحة تجربتي لا تزال قصيرة في مجال الصحافة .. مع أنني مارستها كاتباً ومحرراً في بعض الصحف المحلية ومارستها في مجال المسموعة معداً ومقدماً للعديد من البرامج وعبر المرئية مراسلاً لقناة " الليبية " الفضائية في مدينتي " مدينة المرج " هذا بالإضافة إلى النشر عبر المواقع الإلكترونية وعبر مدونتي الخاصة على شبكة المعلومات " أرشيف الزمن" .
لكن أعود فأقول يجب الانتظار لمدة أطول حتى أتمكن من تقييم التجربة بشكل أكثر نضجاً وموضوعيةً .
- ما هو أهم أعمالك الإذاعية المسموعة ؟
بحكم أنني نشأت في أسرة ريفية بدوية محافظة فإن روح المحافظة والكلاسيكية تملكتني إلى حد كبير .. وهذا ينعكس على أعمالي الإذاعية أيضاً ..فأنا أقدم برامج شرعية ودعوية عبر إذاعة المرج المحلية .. ولكن لا أعتبر أنها أهم أعمالي هناك .. حيث أرى بكل تواضع أنني " أبدعت " في برنامج اسمه ( حوار في قضية ) وذلك حسب ما يراه كثير من المستمعين أيضاً .
- لمن يقرأ الشلماني ؟
أنا أقرأ للجميع .. ولم يسبق أنني رفضت قراءة شيء بسبب اسم كاتبه فأنا لا أحكم على الكتابات من خلال أسماء كتابها .. وإنما أحكم على الكتاب من خلال نوعية كتاباتهم .. ولعل الصيغة الأنسب ـ من وجهة نظري لهذا السؤال هى : " لمن يحب أن يقرأ الشلماني " . وهنا أقول إنني أقرأ للعديدين على الساحة المحلية والعربية والدولية .. غير أنني وفي الآونة الأخيرة بدأت تركيز قراءاتي على تجربة الكتاب " الشباب " على الساحة المحلية .. تأثرت كثيراً بقراءاتي في أدب الصادق النيهوم مع تحفظاتي على كثير مما كتبه رحمه الله .. تأثرت كذلك بإبراهيم الكوني .. على مصطفي المصراتي .. أحمد يوسف عقيلة .. عبد الرسول العريبي .. وآخرون كثر .
- إطلاعك الديني العميق هل له تأثير على إنتاجك الأدبي ؟
سؤال مهم بارك الله فيك .. وأقول هنا أنه وبخلاف قول الكثيرين بأن الدين هو خلاف الإبداع ، فإن الدين هو أساس الإبداع لأن الإسلام " حب " .. والحب لا يحتاج مني لأن أشرحه للناس لكي يفهموا أنه جوهر الحياة كلها .. والفضيلة كلها .. والنقاء كله .
- من يعجبك من الكتاب الليبيين ؟
أنا أفخر بكل المبدعين الليبيين القدماء والمحدثين .. لكن ربما بسبب تشابه البيئة التى عشت فيها وعاش فيها " أحمد يوسف عقيلة " فإنني أقدمه على غيره مع حفظ الحب والاعتزاز بالجميع .
- أصعب موقف أدبي تعرضت له ؟
إنه يوم أن بعثت بإحدى كتاباتي لمطبوعة محلية فردوا في معرض تبرير رفضهم لنشرها أنني " نكرة على الساحة " دون أن يقرأوا ما كتبت ولو مجرد القراءة ..
" سامحهم الله " .
- هل تعرضت لسرقات أدبية ؟
على حد علمي إلى الآن ( لا ) .. ربما لأن كتاباتي ليست من الأهمية ولا من الإبداع بمكان ، لدرجة أن لصوص وقراصنة الأدب زهدوا فيها .
ـ أيهما أهم لديك : الفكرة أم القافية ؟
حبذا لو اجتمعتا معاً .. لكن لو أن حضور إحداهما لابد أن يكون على حساب الأخري فإنني أقدم " الفكرة " على أي شيء آخر .
ـ سؤال تود الإجابة عنه ولم نسأله ؟
ـ تمنيت لو أنك أخي جمال قد سألتني : " لماذا تكتب ؟ "
رغم أنني لا أملك الإجابة عنه .. وهناك إجابة تقفز إلى ذهني كلما سألت نفسي هذا السؤال وهى مرعبة ومزعجة ولا أتمنى أن تكون هى الحقيقة .. هل تعلم ما هى أخي جمال ؟ إنها " لكي أنال الشهرة " . أرجو ألا تكون هى الحقيقة .. رغم أهمية الشهرة وشرعيتها لمن يستحقها .. لكن لا أتمنى أن تكون هى الدافع عندي للكتابة ..
- ما هو جديدك ؟
مجموعة قصصية جديدة آمل أن تجد من يسعى معها لكي ترى النور .
ـ كلمة أخيرة ؟
شكراً جزيلاً لكم لقد كنتم أول من أهتم وأجرى مقابلة معي .. وهذا يعني لي الكثير وسيظل يعني لي الكثير . شكــــراً لكـــــم .

الجمعة، 13 نوفمبر 2009

مذكرات راقد ريح





بقلم / عبدالله الشلماني

( الخيبات المتناسلة )
كلمة " باتي " في لهجتنا الدارجة بشمال شرق ليبيا ترادف بالفصحى كلمة " أبي " .. وربما – أقول ربما – تحورت عن كلمة " أبتي " الفصحى أيضاً والتي تحمل نفس الدلالة مع زيادة في معنى التودد للأب والتحبب إليه حين مناداته .. إذاً فكلمة " باتي " في العامية هي كلمة " أبتي " في الفصحى ولكنها ( مبعثرة ) كما يحلو للصحف والمجلات أن تقول في لعبة الكلمات المتقاطعة ..
ما جعلني أتوصل إلى هذا الإكتشاف اللغوي " العظيم " هو طول التأمل في هذه الكلمة عندما كنت جالساً على عتبة بيتنا وسمعت أطفال جارنا يرددونها بمجرد رؤيتهم لسيارة أبيهم قادمة من مدخل الشارع فانطلقوا صوبها كالصواريخ وهم حفاة يعيدونها ويكررونها بصوت جماعي واحد ومموسق على طريقة التقطيع العروضي للشعر :
- ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) .
أي بمعنى : ( أبتي جاء ، أبتي جاء ) .. أجل .. كان هذا هو التحليل اللغوي لما قاله أولئك الأطفال .. لكنني تساءلت بعده عن التحليل " النفسي " لفرحة أولئك الأطفال وعَدْوهم نحو أبيهم بتلك الطريقة العجيبة وعن سر سعادتهم برؤيته قادماً .. وقد أجابني جارنا عندما سألته بهذا الخصوص فكانت إجابته بالنسبة لي اكتشافاً لا يقل عظمة عن " الإكتشاف اللغوي " .. ولكي أجعلكم تعيشون معي الحدث كاملاً فسأعيد الشريط إلى الوراء لنبدأ من البداية :
- ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) .
السيارة تتوقف .. يُفتح باب السائق .. يترجل الأب فيما يتدافع الأطفال إلى الداخل من ذات الباب وفي نفس الوقت تقريباً .. يخفت صخب الأطفال رويداً رويداً ويتلاشى والأب واقف يتأملهم صامتاً .. ينزل الأطفال في صمت أيضاً .. يعود الجميع إلى داخل البيت في موكب صامت .. واجم .. ثمة خيبة أمل بدت واضحة على وجوه الأطفال والوالد معاً .. قبل أن يدخل جارنا لبيته ناديته لأستفهم :
- " بو جار ؟ .. شنو الجو ؟ " .
التفت .. تردد قليلاً .. ثم يبدو أنه حسم الأمر وقرر المجيء نحوي .. همس متنهداً وهو ينفض مكاناً على العتبة ليجلس بجواري :
- " شنو الجو ؟ " .
.. بعد محاورة مقتضبة مع جارنا فهمت أن الأطفال كانوا بانتظاره ليحضر لهم هدايا النجاح بالمدرسة والتي وعدهم بإحضارها فور قبض الراتب .. وهي – للعلم – مجرد ألعاب بسيطة .. بالونات ملونة ومسدسات بلاستيكية لرش الماء لا يفوق ثمنها كلها العشرة دنانير .. وفهمت أنه رجع من المصرف خائباً تماماً كخيبة الأطفال عندما لم يجدوا الهدايا داخل السيارة لأن المرتبات تأخرت في النزول عن وقتها المحدد لأكثر من أسبوع .. دخل جارنا إلى البيت يجر رجليه جراً وقد نودي لتناول الغداء .. وبقيت أنا أفكر وحيداً على عتبة البيت .. تأملت ملياً في سر هذه العبودية المقيتة والرق المخزي للوظيفة في بلادنا .. حاولت العثور على إجابات لتساؤلات كثيرة أخذت ترتسم في ذهني .. خلصت في النهاية إلى أننا – ومع قلة عطائنا وتفانينا – لا نتقاضى من وظائفنا ما يوازي همّ عبوديتنا لها ورِقّنا لراتبها .. لو كان الراتب مجزياً لأمكن لأحدنا على الأقل أن يحتمل " ثقالة " المدير حينما يمارس شعائره وطقوسه الصباحية المعهودة بمجرد أن يرى أحدنا مقبلاً من الباب فينظر إلى ساعته بعين ويغمزنا بالأخرى ممططاً شفتيه :
- " وين ياسيدي ؟! .. هلّ هلالك ! .. صحّ النوم ! .. ) .
علماً بأن السيد المدير لم يكن ليأتي أبكر من الجميع لولا خوف فوات تلذذه واستمتاعه بهذه " الثقالة " .. وكأن السيد المدير نسي – أو تناسى – أن يلوم إضافة للومه أولئك الموظفين " الرقيق " لتأخرهم ، أن يلوم تلك الدولة العاجزة عن توفير وسائل المواصلات العامة الرخيصة والعملية بدل مجيء أغلبهم على الأقدام أو في حافلات " الربع دينار " .. كما نسي أو تناسى أن هذه الدراهم التي يتقاضاها الموظفون أصبحت أضحوكة العالم بأسره ، والذي شهد تضاعفاً للأسعار لعشرات المرات منذ آخر تعديل في القانون الليبي للمرتبات والأجور .. فالسيد المدير في العادة يركب سيارة الدولة ويمونها مجاناً بوقود الدولة وله مصادر مالية أخرى بديلة هي في الأغلب من أموال الدولة .. فكيف تستغرب منه الثقالة إذاً ؟ ..
.. في أثناء استغراقي وإبحاري في هذه الأفكار والخواطر يرن جرس الهاتف النقال في جيبي .. على شاشة الهاتف رأيت اسم زميلي في العمل .. أجبته :
- " آلو .. خير يا .... " .
قاطعني مبشراً إياي وهو يصيح :
- " المرتبات قالوا نزلن اليوم .. والله قالوا نزلن توا .... " .
قاطعته بدوري ضاغطاً على الزر الأحمر الذي ينهي المكالمة .. الفرحة تغمرني .. وقفت .. أخذت طريقي للمصرف وأنا أعدو ولسان حالي يقول :
- " با .. تي .. جا .. " .
.. ثم تذكرت أثناء الجري - وبعد ذهاب سَوْرة الفرح - أن الوقت لا يكفي للوصول إلى المصرف قبل نهاية الدوام .. وأن زميلي لم يعلم أصلاً بقصة إحالتي " للمركز الوطني " منذ أيام .. إضافة إلى أنني لم ألبس " شبشب " النايلون الذي خلعته عند العتبة ممدداً رجلي هناك ..
توقفت .. وعدت من منتصف الشارع أجر رجليّ جراً .. حافياً كما أطفال جارنا .. خائباً تماماً كخيبتهم .. وقبل أن ألج من الباب سمعت صوت جارنا الآخر وهو يناديني محاولاً أن يستفهم :
- " بو جار ؟ .. شنو الجو ؟ ) .