الأربعاء، 20 مايو 2009

وجئتكم من درنة بنبأ يقين

( جانب من الحضور وتظهر 1- حواء القمودي 2- عاشور بوشوق وآخرون )
مهرجان إيراهيم الأسطى عمر الأول للفكر والفنون الذي نظمته جمعية بيت درنة الثقافي .. هذا الحدث الذي أثار عواصف وزوابع على الساحة الثقافية الليبية حتى قبل أن يبدأ .. صراع المؤسسة الرسمية للثقافة التي تفرض نفسها راعياً أوحداً ( لا شريك له ) للحراك الثقافي ، ومؤسسات المجتمع المدني والعمل الأهلي - ممثلة في بيت درنة الثقافي - والتي تناضل للحصول على دور في ذات الحراك .. مقالة نارية تنعت بأوصاف ومضامين واتهامات التخوين والعمالة والتسويق لأجندات خارجية كل القائمين على تنظيم المهرجان نشرت في صحيفة الشمس - الرسمية - تستبق المهرجان بأيام دون أن تحمل اسم كاتبها .. وردود لا تخلو من الحدة والجرأة وردت في مواقع ألكترونية ليبية على ألسنة وأقلام بعض أولئك المنظمين للمهرجان .. ونقطة الخلاف هي اشتراط المؤسسة العامة للثقافة لكي تنفق على المهرجان استثناء جزء من أنشطة المهرجان وهو ندوة عن دور مؤسسات المجتمع المدني ، مما دفع بالمنظمين للبحث عن تمويل من غير تلك المؤسسة - وهو الذي حدث - فكان الذي كان من هذا اللغط ..
في الواقع كنت أنوي حضور فعاليات المهرجان منذ البداية .. ولكن وبعد هذا الشد والجذب أصبح حضوري للمهرجان أمراً ملحاً أكثر وأكثر .. إنه الفضول للإطلاع عن كثب .. شحنت "كاميرتي" الرقمية الصغيرة وجهاز الكمبيوتر المحمول وحزمت حقيبة الظهر وتوجهت إلى هناك .. إلى درنة
( 1- سالم العوكلي 2- هشام الشلوي 3- أحمد الفيتوري )
لم أجد هناك شيئاً غير اعتيادي .. أصبت بالخيبة إلى حد ما .. لا أدري .. ربما لأنني كنت أتوقع أن الأحداث ستكون أكثر دراماتيكية .. هكذا .. تتوقع الإثارة فتتفاجأ بالعكس .. ربما ترون شيئاً من السطحية في هذا الطرح .. لكنني كنت صريحاً معكم في وصف ما شعرت به .. أحياناً يطفو على السطح سلوك الأطفال في داخلنا .. هذا هو الواقع .

( 1- عبدالقادر الدرسي 2- سالم بن زابيه )
مهرجان عادي وبسيط وجميل في مراسمه وأماكن مناشطه .. أما المناشط ذاتها فهي لا تختلف عن مثيلاتها المعهودة في بقية المهرجانات والمحافل الثقافية الأخرى في ليبيا .. أمسيات شعرية ، قراءات نقدية ، عروض مسرحية ، معارض فنية لصور ولوحات ، وشخصية للمهرجان ( الأستاذة الراحلة المربية فتحية عاشور ) .. حتى ندوة مؤسسات العمل المدني التي قامت الدنيا من أجلها ولم تقعد لم تأت بجديد - من وجهة نظري على الأقل - يضاف إلى ما عندنا حول موضوعها .. المميز حقاً وفعلاً في هذا المهرجان كان هو لطف وكرم ( الدراونة ) .
( 1- عبدالله الشلماني 2- محمد الشلطامي )
تنظيم رائع تلفه وتدثره الحميمية إلى حد كبير .. لم أكن مدعواً رسمياً .. فأنا وكما تعرفون ( راقد ريح ) .. لكنني أصررت أن أسافر إلى درنة وأسكن وآكل وأتنقل على نفقتي الخاصة .. وقد كنت سعيداً بذلك برغم ( رقادة الريح ) .. لكن ما آلمني وجرحني في العمق هو تجاهل بعض من كنت أظنهم أصدقاء لوجودي .. لا ألومهم بل وألتمس لهم العذر .. ربما اعتقدوا أنني سأتطفل عليهم وأتملقهم لأحصل على غداء مجاني أو مبيت بالفنادق المخصصة لهم .. وللأمانة أقول : هم قلة .. أقل من أصابع اليد الواحدة " التي بترت منها ثلاثة أصابع " .. أخذتني الكبرياء إلى مكان قصي من العزلة عنهم .. تجاهلتهم بدوري .. قلت في نفسي ( عزّ نفسك يعزّها الله ) ..

( 1- علي أحمد سالم 2- أحمد يوسف عقيلة )
أجمل ما في هذه الملتقيات هو اكتساب الأصدقاء الجدد ( بدل من نفقدهم على الأقل ) .. تعرفت على كثيرين وتعرفوا هم عليّ .. تبادلنا العناوين والهواتف .. تناقشنا وتطارحنا الكثير من قضايا الوطن وهموم الفكر والثقافة والأدب .. تلاقحت أفكارنا وتمازجت فعدنا إلى بيوتنا بتجربة وبخبرة أكثر عمقاً ..

( الشلماني يصافح بوشوق في طريق مغادرته للمكان )
قلت لكم في البداية أنني لم ألاحظ شيئاً غير اعتيادي .. لكنني أعترف أن المهرجان حدث أتمنى تكراره في درنة وفي بقية مدننا وقرانا الرائعة على امتداد تراب هذا الوطن .. لأنه نوع من إيجاد وعي وحس بالإنتماء لدى الناس .. نوع من خلق الذائقة الجمالية عند النشء .. ترسيخ واقعي وعملي لمفهوم الثقافة والفكر والمعرفة والفن في ذاكرة ووجدان المجتمع .

( 1- علي الربيعي 2- أمين مازن . ويظهر في الخلفية : فوزي بن كاطو )
هناك أمر آخر لاحظته لا يقل مرارة عن تجاهل من كنا نظن لوهلة أنهم أصدقاء .. إنه التعالي والعجرفة عند البعض الآخر ممن حسبنا يوماً أنهم كبار .. سبحان الله .. كم تتهاوى القامات السامقة عند انزلاقها في هوة التكبّر .. قرأنا لهم فأحببناهم من كل قلوبنا .. التقيناهم فنزلوا في أعيننا من علياء سمو المحبة إلى حضيض قعر الإزدراء .. ليتني بقيت قارئاً لهم وحسب .. ليتني لم ألتقهم .. بل الأصح أن أقول : ليتهم لم يكونوا كذلك .. ترى هل خلقت أيها الأديب من طينة غير التي خلق منها ( آدم ) ؟ .. أبلغت شأواً في المعرفة يدفعك لعدم مخالطة الدهماء كي لا تصيبك عدوى جهلهم ؟ .. أم تراك صرت أكبر من الوطن وأهله ؟ .. ( اللهم لا تجعلني منهم ) ..
( حفل الإختتام 1- أمين مازن 2- راشد الزبير السنوسي 3- أحمد الغزواني . وآخرون )
تلاحظون أنني لم أتناول بشكل متخصص أياً من نشاطات المهرجان .. لم أسجل لكم انطباعات عن لوحة أو صورة .. لم أورد قراءة في قصيدة أو أدلي برأي في موضوع نقاش فكري أو عرض مسرحي .. ربما ستجدون ضالتكم بهذا الخصوص في أماكن ومواقع أخرى أكثر دقة وتخصصاً وأوسع مساحة .. كل ما أردت أن أفعله هنا هو أن آخذكم إلى هناك .. إلى درنة .. أن أفتح لكم نافذة صغيرة تطلون من خلالها على الحدث من زاوية مختلفة .

( مدخل بيت درنة الثقافي .. مبنى كنيسة إيطالية بمدينة درنة القديمة )

منذ أن بدأت بالإحتكاك بالملتقيات والمحافل الفكرية والثقافية في بلادنا منذ فترة ، وأنا أتفاجأ في كل مرة بأمر يصدمني .. إما سلباً أو إيجاباً .. لكنني اكتسب في كل مرة المزيد من المعرفة والخبرة كما قلت آنفاً .. أستطعت أن أكون إلماماً كافياً بالتركيبة المعقدة ( لإثنوغرافيا ) الثقافة في بلدي إن جاز التعبير .. هل تعلمون أن المثقفين عندنا " أقصد أغلبهم " ينتمون لإثنيات وعصبيات ونعرات متباينة ومتشاكسة ولكنها فكرية وليست عرقية ؟ .. في مهرجان الأسطى الأول بدرنة أيضاً تجلت تناقضات ومشاكسات هذه التركيبة المعقدة .. حتى بين مثقفي درنة أنفسهم .. نصفهم غاب عن المهرجان احتجاجاً على النصف الآخر الحاضر .. ومع ذلك يبقى مهرجان درنة موعداً للفرح نتمنى أن نرى نسخته الثانية في العام المقبل .. إستمعنا إلى قصائد رقيقة .. تناقشنا في قضايا هامة .. شاهدنا ألواناً زاهية ولوحات وصوراً رائعة وعروضاً محترمة .. التقينا .. وذلك هو المهم .


( في داخل البيت الثقافي . والشلماني وبن زابيه في آخر الصورة )

رجعت لبيتنا وفرّغت الصور على الحاسوب وأعطيتكم عينة منها .. أتمنى أن تعجبكم .. حاولت أن أتجول بكم هناك .. لعلي أكون قد وفقت ولو قليلاً .. أعرف أن معظم ثرثرتي السابقة كانت انطباعات شخصية ومشاعر خاصة .. لكنها تظل جزءاً من الحدث .. أليس كذلك ؟

إلى اللقاء قريباً ..

السبت، 16 مايو 2009

عصفور المقهى ( قصة قصيرة )

( إلى حمد بن رحومة )
( أخي الذي لم تلده أمي )
بقلم / عبدالله الشلماني

( 1 )

... طابورٌ طويلٌ من ( الخرّازين ) السودانيين على الناصية قُبالة المقهى في ساحة سوق (( الجمهورية )) . كلٌ منهمكٌ في ما بين يديه من الأحذية البالية ، محاولاً إصلاح ما أفسده طول المسير . " القهواجي " المصري جالسٌ على صندوق مشروب " البيبسي " الفارغ أمام التلفاز ، يُشاهد موقعةً حامية الوطيس بين الأهلي والزمالك ، في انتظار زبون ربما يدخل طالباً شطيرة " دحي بالتن " ..

كلُ شيءٍ في المقهى يوحي بالعدم .. بالموت .. باللاروح .. جدران متصدعة أكلتها الرطوبة . مناضد ومقاعد بلاستيكية متناثرة بغيرما انتظام . أرضية صلدة من البلاط الخشن سيء الصنع . وبضع اسطوانات غازٍ فارغةً عند الزاوية خلف ضلفة الباب المعدني الصّدئ . وعلى ذات الضلفة من الخارج عبارة مكتوبةٌ هكذا باللهجة المصرية : " خود راحتك يازمن ". لاأثر للحياة هنا .. لانبض ..!. لاألوان ..!. لادفء ..!. الجماد لوحده هو العنوان الذي يختزل الحيِّز واللحظة في آن معاً ..

( 2 )

... فجأةً يتغير كل شيء .! تعود الألوان إلى الصورة الباهتة .. تبتسم الجمادات في المقهى .. ترتعش .. تسري فيها روحٌ خفيةٌ تكاد أن تجعلها تتنفس .. حتى أسلاك الكهرباء المتشابكة في فوضىً عارمة والمتدلية من مؤخرة السقف ، توشك أن تتحول إلى أغصان نضرة لعريشةٍ حُبلى بالعناقيد . كل هذا حدث أمامي في لحظةٍ واحدة . لحظةَ أن ولج إلى المقهى كائن صغير بحجم قبضة اليد .

( 3 )

هكذا هي بعض الكائنات .. تُحيل الجحيم إلى جنةٍ بمجرد حلولها فيه . والعكس صحيح .. " الفضيل بوراغب " ، ذلك العجوز من مدينة (( مطروح )) ، والذي عمل ردحاً من الزمن راعياً لقطيعنا , يعتبر من تلك الكائنات التي تبعث الحياة في الأشياء . في ذلك اليوم منذ أعوامٍ خلت رأيته يفعل ذلك .. يومها ، إستأجرنا شاحناتٍ مخصصةً لنقل المواشي لكي تنقُل قطيعنا إلى الصحراء الجنوبية . هرباً من صقيع شتاء الساحل وطلباً للكلأ في تلك التخوم .

حين وصلنا إلى هناك ، كانت جلبة نباح الكلاب ، وسِباب سائقي الشاحنات ، والإنهماك في إنزال النعاج والعلف والأمتعة ، والعكوف على بناء الخيمة الصغيرة ، كل ذلك ، شكَّل غلالة سرابية من الغفلة لم ننتبه معها إلى شيء . ولكن .. وفور مغادرة الشاحنات والفراغ من توظيب الأمتعة ، تلاشت تلك الغلالة كاشفةً لنا عن وجه الصحراء القبيح .. حيث أطبق الصمت .. والسكون .. مفسحاً المجال لنشيجٍ مفجعٍ للريح ..

.. الوجوم بدا على الجميع .. حتى النعاج والحملان ، بدا عليها الإحساس بالشجن والغربة ، فأخذت تحدق إلينا ناصبةً آذانها الصغيرة وهي تثغو باستجداءٍ يثير الشفقة . ومما زاد من وحشة المكان ، أُفول قرص الشمس إلى الأفق الغربي وراء التلال المجدبة ، فأضفت العتمة شيئاً من الرهبة على المشهد .. وفجأةً كما في المقهى ، تبدَّى لنا وجه " بوراغب " على وميض ألسنة اللهب .. التي انبثقت من نارٍ طفق يسجرها لإعداد الشاي ، بتجاعيده وابتسامته الودودة التي نادراً ما كانت تفارق مُحياه .
حول النار ، تحلقنا معه نتسامر و نحتسي كؤوس الشاي الأخضر " المنعنع " ونتجاذب أطراف الحديث .. عندها تغير كل شيء .. أُنسٌ غريب بدَّد مااعترانا من وجوم .. عندها فقط .. شعرنا أن الحياة قد عادت إلى الصحراء . وأن شيئاً من الأُلفة والحميمية معها بدأتا تأخذان مكان الرهبة والوحشة . وعندها فقط .. خالجنا إحساسٌ بأن الصحراء قد تبدّلت إلى مروجٍ بهيجةٍ تعبق بالأريج .

( 4 )

إن ذلك العصفور الصغير بحجم قبضة اليد ، والذي راح يزقزق ويتقافز على الأرضية الصلدة ، إستحال معه كل شيءٍ في المقهى إلى فرحٍ غامر . تماماً مثلما استحالت الصحراء مع " الفضيل بوراغب " . وليس ثمةَ من شكٍ أن تلك الصحراء قد رجعت مواتاً ويـباباً كمثل ماكانت عليه حين غاب عنها " بوراغب " منذ سنواتٍ عائداً إلى مطروح .. مبعثُ هذا اليقين عندي ، هو أنني قد رأيت كل شيءٍ في المقهى قد رجع إلى مثل ما كان عليه ، بمجرد أن طار عنه العصفور الصغير مرفرفاً إلى حيث الزُرقة والإتساع ..!!

الأربعاء، 13 مايو 2009

( فنجان قهوة ) بقلم / عبدالله الشلماني

( الشلماني وحبيبته بين يديه )
لا يمكنني أن أتخيل حياتي بدون فنجان القهوة .. إنه رفيقي الدائم .. البعض قد يتخذون رفاقاً من نوع آخر .. نوع سيء جداً .. سيجارة مثلاً .. أو أنواع أخرى أكثر سوءً أنتم تعرفونها جيداً ( عافاني الله وإياكم منها ) .. أما أنا ففنجان القهوة - وإن كان سيئاً عند بعض الأطباء – فهو يمثل لي ورغم ذلك عنوان كل صباح .. لدرجة أنني أصبحت في كثير من الأحيان أجد عناءً في البحث بالمحلات و( السوبرماركتس ) ودكاكين العطارة عن أنواع فاخرة من "البن" تتناسب ومزاجي الدقيق في شرب القهوة .. أختار بعناية أنواعها ونكهاتها وأمكنة صنعها بل وأتكلف مالاً جراء ذلك ..
وبسبب ولهي وتعلقي بالمطالعة والكتابة واللتين أتفرغ لهما في الليل عادة طلباً لهدوء المساءات وسكينتها ، فإن القهوة تمسي حينذاك من الضرورات واللوازم .. فتجدونني أتوجه إلى المطبخ في آخر الليل لأغلي القهوة ، وربما تسببت بالضوضاء وأزعجت النيام من أهل البيت عندما تسقط مجموعة من الأواني على الأرض أو عندما أبحث عن أعواد الثقاب فأقلب المطبخ رأساً على عقب .. وكم ضحكت عندما عدت إلى البيت ذات يوم فوجدت شقيقي قد اشترى لي موقداً صغيراً ( بريموس ) وقال لي :

- " طيّب قهوتك في حجرتك وفكّنا من إزعاجك " .

قهوة " العشية " بالنسبة لي أولوية قصوى .. وعندما أكون صائماً في شهر رمضان أو غيره فالفنجان بجوار التمر والماء .. أشاهد التلفزيون أحياناً فيأتي مشهد أو صورة عابرة لقهوة أو شخص يشرب القهوة فتتحرك عواطفي تجاهها وأطالب من بجانبي أن يعد لي فنجاناً ..عندما أسافر آخذ معي مقداراً من ( البن ) تحسّباً لئلا أجد ما يناسب مزاجي منه في المكان الذي أسافر إليه .. وعندما أزور بعض الأصدقاء أو الأقارب ويقدمون لي قهوتهم – والتي نادراً ما تعجبني – أرى في عيونهم ترقّباً وعلى شفاههم ابتسامةً بانتظار تعليقي على مذاقها ، لأنهم جميعاً يعرفون قصتي مع القهوة .. لا أدري ما إذا كان عشقي للقهوة شقاءً وعذاباً أم هو متعة وانسجام .. المهم أنني أعشقها وحسب .. هل تعلمون أنني أكتب الآن هذه السطور والفنجان بجانبي ؟ .. بعد إذنكم ..لقد برد الفنجان وعلىّ الآن أن أسخنه .. " ع البريموس " ..!! إلى اللقاء ..

مذكرات راقد ريح

( راح سوّك )
بقلم / عبدالله الشلماني
الموت ولا شك ليس نهاية للحياة بقدر ما هو بداية لحياة أخرى .. أو بالأحرى هو البداية الحقيقية للحياة .. مقدمة لولادة ثانية .. حين سنولد جميعاً من رحم الأرض بعد مخاض طويل في أحشائها .. ولادة سنواجه بعدها مصاعب جمة وأفراحاً جمة بحسب مقادير كل منا .. تماماً كالمصاعب والأفراح التي تنتظرنا بعد الولادة الأولى .. غير أن تلك التي تنتظرنا بعد الولادة الأولى مؤقتة وأقل تأثيراً ، فيما التي تنتظرنا بعد الولادة الثانية أبدية وأعظم شأناً ..
لطالما كانت هذه هي فلسفتي وقناعتي بحقيقة الموت .. والتي جعلتني دائماً أقف حياله موقف المتعايش والمتأهب لأن يجعل ما بعده مما عظم شأنه متعلقاً فقط بالأفراح .. لكن عندنا في ليبيا يبدو أن القناعات والفلسفات لا بد من تغييرها - أو على الأقل تحويرها – بين الحين والآخر .. ليس تشكيكاً ولا طعناً في الحقيقة السابقة " معاذ الله " .. وإنما تماشياً مع بعض الإستحقاقات ومرونة تجاه بعض الظروف .. هل أسمع من يسألني كيف ؟.. حسناً فاستمعوا إذاً :
توفي قريبنا بعد معاناة طويلة مع المرض زار خلالها أغلب دول الجوار .. ليس للنقاهة .. بل بحثاً عن علاج يناسب حالته العصية على "طبّ ليبيا" .. باع ( اللي فوقه واللي تحته ) ليصرف أمواله على أعتاب مستشفيات ومصحات تونس ومصر والأردن ، ثم عاد في النهاية يائساً ومنتظراً ساعة الرحيل .. جرس الهاتف الجوال يوقظني من النوم عند الساعة الثالثة فجراً ليخبرني بوفاة قريبنا مختتماً خبر النعي بقوله :

- " راح سوّك " !؟

.. ما أن أيقظت من بالبيت وأخبرتهم الخبر وتجهزنا للخروج إلا والصبح قد أسفر .. وصلنا .. إنها ساعات النهار الأولى .. الخلق يتقاطرون ويتجمعون أمام بيت المتوفى .. أصوات العبرات والنحيب تختلط بأصوات المعزين والمواسين .. تتزايد أعداد الوافدين على المكان .. تتضاعف .. يكتظ المكان .. أرتال السيارات لا تنقطع وهي تتوالى سيارة بعد الأخرى أمام الباب لتنـزل حمولتها من النساء والأطفال داخل البيت ثم لتصطف مع سابقاتها على الناصية مغلقةً الشارع على المارة .. وليترجّل سائقوها في ضوضاء وصخب وبكاء :
- " يانا عليّ يا بوي يانا عليّ .! يانا علاااااااي ياخوي ورفيقي يانا عليّ .! " .
فيما تسمع صيحات أخرى ممن فرغت شحنة بكائهم :

- " راح سوّك .. راح سوّك " .

أما نحن أقارب المتوفى فقد جلسنا مذهولين لألم حرارة الفراق .. لم نهتم لشيء ولا انتبهنا لأحد .. كلنا .. أبناء المتوفى وإخوته وأعمامه وبنو أعمامه وكل أقاربه .. لكن تبرز في مثل هذه المواقف عادة شخصيات لها صفات ومواهب ( قيادية ) هي في الأغلب من غير الأقارب .. ينتدبون أنفسهم للإتصال بتشاركيات تأجير الخيام والسرادقات والكراسي ولوازم المناسبات التي من هذا النوع .. كما يتصلون بالجزار ليفتح لنا حساب بيع لحوم بالدين طيلة أيام المأتم .. ويتفقون مع محلات المواد الغذائية و المعدات المنزلية لجلب الشاي والسكر والأرز والزيت و( الطناجر ) والأكواب والمناشف ، بل وحتى الصابون والنعناع وحفّاظات تبريد المياه و( مكبر صوت ) للنداء على زوجات المعزين حين مغادرتهم ، وبقية الكماليات مما تتطلبه وتقتضيه خدمة وجبات ومشروبات " المعزين " ورفاهيتهم .. إضافة إلى إنهاء إجراءات الدفن من موافقات رسمية وتغسيل وتكفين وإعداد ( الحفرة ) وكل شيء ..
شعرنا مع هذه المساندة القوية أن الناس يشاركوننا حزننا ومتعاطفون معنا .. يتكفلون بكل شيء .. شباب ورجال من الجيران والمعارف يلفون حول رؤوسهم "مناشف" بطريقة تشبه العمائم تعبيراً عن الجاهزية والإستنفار ويهرولون في كل اتجاه استجابة لإيماءات المعزين – بعد فراغ شحنة بكائهم – وتلبية لطلباتهم التي لا تنتهي :

- " الشاهي يا لَيْد " .. " موية مسقعة للعرب يا لَيْد " .. " تعال نظّم الكراسي يا لَيْد " .. " نادي علي أهل عمك فلان من جوّة بيش يروّحوا يالَيْد " .

انتظمنا – أقارب المتوفى – في طابور طويل على الكراسي عند مدخل السرادق مثلما طلبت منا ( الشخصيات القيادية ) حتى لا يتعب الناس في البحث عنّا لتعزيتنا .. وبين كل لحظة وأخرى ترى الطابور ينهض واقفاً ثم يجلس في منظر بهلواني مع دخول كل معزّي وذلك بمعدل 8-10 مرات في الدقيقة الواحدة .. إلى الدرجة التي دفعت ببعض المسنين منا إلى أن يظل واقفاً بدل "عذاب" النهوض والجلوس .. وكادت ألسنتنا تتهدّل إعياءً وتعباً ونحن نجامل ونجيب كل من يتعلق بأعناقنا ويقبل خدودنا بحرارة :

س - " راح سوّك " .
ج - " سوّنا وسوّك " .
س - " عظّم الله أجرك " .
ج - " أجرنا وأجرك على الله " .
س – " البركة فيكم " .
ج – " ماريت ما غيّر عليك " .

في الليلة السابعة خلت السرادقات وساد الصمت المطبق بعد أن غادر الجميع .. لم يبق إلا أهل الميت في ركن قصيّ من الخيمة ، وسط فوضى عارمة من الكراسي المبعثرة والأكواب والأواني وبقايا الأطعمة الملقاة في كل مكان .. وفيما كنت (أطقطق) بمسبحتي مطرقاً برأسي وسط هذا السكون الحزين وإذ ( بكبير القيادات ) يطل برأسه من مدخل الخيمة ، ويغمز لي بعينه موعزاً إلىّ أن ( تعال ) .. خرجت إليه فأخذ بيدي إلى العتمة واحتظنني وذرف ثلاث دمعات " ع المرحوم " ثم دسّ في جيبـي دفتراً صغيراً .. أخرجت الدفتر ونظرت فيه وبالكاد أستطعت أن أتبين وسط الظلمة أن مجموع ديون مصاريف المأتم ( ع المرحوم ) هي 8000 دينار !!؟؟ .. فزعت .. تملكني الرعب .. رفعت رأسي لأتحدث مع ( كبير الشخصيات القيادية ) ولأستفهم عن هذه الأرقام ، فإذا هو يلوّح لي مبتعداً "يكفكف" دموعه ويردد :

- " راح سوّك .. راح سوّك " !!؟؟