الأحد، 23 مايو 2010

من أزمات الخطاب الإسلامي المعاصر



بقلم / عبدالله الشلماني ..
إنه مما يبعث على السرور والإنشراح ذلك الإنتعاش الذي شهده الإعلام الإسلامي على صعيد الفضائيات المرئية العربية وذلك على مدى السنوات القلائل الأخيرة . لأنه ربما قد يمثل دليلاً ملموساً على انتشار الصحوة الدينية – إن جاز التعبير – بين أوساط الأمة على مختلف أطيافها ، مما أدى بالنتيجة إلى انعكاسها على الإعلام ذاته . غير أن تلك الفضائيات والمنابر الإعلامية الإسلامية أو ذات التوجه الإسلامي بمعنى أدق ، لاتزال تعاني من قصور واضح يعتري آليات عملها وما تنتهجه من سياسات ومن خطاب . ومن غير المعروف ما إذا كان ذلك بسبب قلة الخبرة الناتجة عن حداثة العهد بالعمل الإعلامي الإسلامي ، أم بسبب غياب الإختصاص عند القائمين على تلك المنابر ، أم أن ذلك القصور ناتج عن أسباب أخرى نجهلها من غير المستبعد أن تكون أيدٍ خفيةً ومنطلقةً من نوايا مبيتةٍ هي التي تقف وراءها . ولكي نفلت من فخ الحديث في العموميات ولكي نكون أكثر عمليةً وواقعيةً في طرحنا ، سوف نسوق مثالاً بسيطاً يميط اللثام عما أردنا أن نشير إليه من خلل في تلك الفضائيات الإسلامية ، ألا وهو : (( عدم مراعاة الفوارق في الثقافة والتكوين المعرفي والعلمي والقدرات والملكات الفردية والشخصية بين جمهور المتلقين من المشاهدين )) . وذلك عندما يظهر على شاشة ( س ) أو ( ص ) الفضائية الإسلامية برنامج حواري هو أشبه بمناظرة علمية متخصصة - على غرار ما كان معمولاً به في القرون الأولى من عصر الإسلام ، حينما كان علماء الأمة ينهضون للذود عن صحيح الدين ، عند بداية ظهور الفرق والنحل والجماعات وانتشار الضلالات – فنرى على تلك الفضائية الإسلامية عدداً من العلماء أو الدعاة أو المثقفين ، يتناولون موضوعاً خلافياً شائكاً ومعقداً تختلف فيه وجهات النظر وتتباين فيه آراء العلماء والفقهاء تبايناً حاداً ويكتسي طابعاً ذا حساسية مفرطة . مثل الخوض في موضوع ( التشيُّع ) عند الشيعة ، أو مثل موضوع ( العلاج بالقرآن الكريم ) فيما يتعلق بالسحر والمس وغيره ، أو مثل موضوع ( التصوف ) ومدارسه ومشائخه وطرقه ، أو ما شابه ذلك . وهنا يجدر بنا التنويه إلى أننا لاننكر أهمية ما يتم تناوله , خصوصاً إذا ما تم التطرق إلى أوجه الزيف والبطلان والغلو والمبالغة في أيٍ مما ذكر من مواضيع . ولكن مبعث الإعتراض ، هو أن يتم التركيز على السلبيات وتسليط الأضواء عليها دون ذكر المزايا والإيجابيات ، إنطلاقاً من تصور مسبق مفاده أن المشاهد أو المتلقي هو على دراية كافية وثقافة رصينة تؤهله لأن يميز بين الغث والسمين ، وبأنه ليس هناك داعٍ لتناول الإيجابيات التي لاشك بأن المشاهد أو المتلقي يعرفها – من وجهة نظرهم طبعاً - بقدر ما هناك داعٍ للتطرق إلى السلبيات التي يتوجب عليه الحذر منها . وهذا ولاشك ، زللٌ خطيرٌ وخطاٌ فادحٌ وكبير ، تقع فيه الفضائيات الإسلامية ، عندما تعالج تلك القضايا المهمة والساخنة بهذه السطحية واللامهنية ، ومكمن الزلل والخطورة في ذلك هو أنه ليس كل مشاهدٍ يمكن اعتباره مثقفاً أو متعلماً أويستطيع التمييز ، أو لايتأثر سلباً بالتركيز على كشف العيوب دون ذكر المميزات ، وخاصةً في دولنا العربية والإسلامية التي لاتزال الأمية ضاربةً أطنابـها في قطاعات واسعة من مجتمعاتها .
أذكر أنه منذ فترة ليست بالطويلة ظهر على إحدى الفضائيات ذات التوجه الإسلامي برنامجٌ على شاكلة ما ذكرنا ، يضع ( التصوف ) على طاولة الدرس والتشريح ، وصادف أن المتحدث باسم التصوف كان ضعيف الخطاب ظاهر العجز ، على العكس ممن يناظره . حيث كان الآخرُ مفوهاً ذا فصاحةٍ وبيان . فطفق ذاك الذي ينتقد التصوف يركز على فضح ضلالات الجهلاء ممن ينتسبون إلى التصوفِ . وذلك بعرض مخالفاتهم الشرعية وتصرفاتهم البدعية التي لاتمت للكتاب ولا للسنة بصلةٍ من الصلات . مما دفع بالمتحدث باسم التصوف لأن يقف موقف الدفاع ودرء التهم ، تماماً مثل أي شخصٍ يقف متلقياً الضربات والصفعات المنهالة عليه من كل الجهات ، وهو لايدري من أين ستأتيه الصفعة التالية ، إلى الدرجة التي يكاد يخرج معها من يشاهد المناظرة ، بفكرة مؤداها سوء وفساد منهج التصوف بالكلية . وهذا لعمري ظلم لمنهج التصوف - كما هو ظلم لغيره مما يطرح على هذا النحو من موضوعات – ما بعده ظلم . باعتبار أنه ليس من المنهجية العلمية أن تناقش الأمور والقضايا الحساسة بهذا التعميم والشمول لمجرد إمعان الطعن في الفكر الصوفي الصحيح الذي يرتكز - وفق ما ذهب إليه سلف الأمة – على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والذي يضرب عرض الحائط بكل ما خالفهما وناقض أحكامهما ، كمثل ما درج عليه السلف من أمثال ( الجنيد و الحسن البصري و عبدالله بن المبارك وإبراهيم بن أدهم وأبي مسلم الخولاني ومالك بن دينار وأبي سليمان الداراني بل والصحابة والتابعون والأئمة الأربعة وابن تيمية وابن القيم ) رحمهم الله تعالى جميعاً ، وغيرهم كثيرون ممن تبنوا مبدأ الزهد والتخفف من متاع الدنيا والإنصراف للعبادة والدعوة إلى الله رب العالمين سبحانه ..
مناط الظلم الذي ذكرنا لا يتعلق بمن هم على دراية واطلاع بما يتم تناوله مخافة أن يقعوا في لبس أو سوء فهم . وإنما يتعلق بأولـئك المتلقين من المشاهدين والمستمعين الأميين أو قليلي الإطلاع أو أنصاف المثقفين بالنظر إلى أنهم السواد الأعظم من الأمة مع كل أسف . ومن هنا ، ومن هذه النقطة بالذات , وقعت القناة الإسلامية في المحظور ، وأفسدت الأمور من حيث أرادت أن تصلحها . وبدلاً من إيضاح الحقيقة وتبيان تصرفات الغلاة والجهلاء وكشفها وتبرئة التصوف منها ، ساهمت القناة بطريقة مستترة وغير مباشرة , وبنية حسنة ( أو غير حسنة ) , في تجذير وترسيخ فكرة فساد معتقد عموم المتصوفة وانحراف منهجهم ..
وهذا أمر طالما حذر منه علماؤنا الكبار على مر العصور , حيث أوصوا بعدم الخوض في أمور قد لا يدركها العامة ، بل ربما سببت فيهم البلبلة والفتنة , في حين قد لا تستلزم فيه تلك الأمور كل هذه البلبلة , فيما لو اقتصرت مناقشتها بين أهل العلم وذوي الإختصاص . ولم يكن ذلك البرنامج سوى مجرد مثال عابر ، فمثله الكثير والكثير من البرامج التي تناولت خلاف ما تناوله ، ولكنها أدت إلى مثل ما أدى إليه . وإلا فمنهج الصوفية الحقيقيين رحمهم الله تعالى لم يكن يوماً بمعزلٍ عن الهجوم والإتهام ، ولاهو في الوقت ذاته بحاجة لمن هو مثلي لكي يدافع عنه . لأنه ببساطة منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان ، منهج كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ..
وأخيراً نقول بأن لكل حديث خلاصة . وخلاصة حديثنا أننا ننصح ونحذر أبناءنا وبناتنا من الشباب ، من قراءة أو سماع أو مشاهدة أو الإطلاع على أية ثقافات أو ديانات أو مذاهب أومدارس غريبة عنا ، ما لم يكن القاريء أو المشاهد أو المستمع ذا علمٍ كافٍ ومعرفة متينة بالأمر الذي هو بصدد مشاهدته أو الإطلاع عليه . خصوصاً فيما يتعلق بأمور العقيدة والتوحيد ، أو علم الكلام والفلسفة والماورائيات . كما أننا نتمنى من إخواننا القائمين على الصحافة والإعلام وعلى المواقع الألكترونية والقنوات الفضائية عامةً والإسلامية منها خاصة . أن يتفطنوا في مستقبل الأيام إلى ما نوهنا إليه .