السبت، 14 نوفمبر 2009

الساحة الثقافية بخير .. ولكنها تعج بالمتسلقين والأشباه !؟


الساحة الثفاقية بخير .. ولكنها تعج بالمتسلقين والأشباه
حوار لـ ( صحيفة قورينا ) مع : عبدالله الشلماني
في عددها الصادر يوم الإثنين 3/8/2009 م
حاوره / جمال الخراز
هناك أسماء لا نستطيع إلا أن تقف لها إجلالاً وإكباراً رغم قصر عمرها الأدبي والإبداعي بالنظر إلى ما تجود به الساحة الأدبية والثقافية الليبية . ولكن يظل اسم مثل اسم ضيفنا مميزا في كل شيء.. سواء في أفكاره أو أسلوب تناوله أو الغزارة في مفرداته اللغوية . لدرجة تذهلك وتثير إعجاب الجميع .. كيف لا وهو الأديب الشيخ .. رغم أنه لم يتعد الأربعين وقد حصل على العديد من الجوائز المهمة وإنتاجه الأدبي الشعري والقصصي يجد الإقبال والرضا من المتلقي حيثما قدمه .. لهذا سررنا جداً بمقابلته وتقديمه لقراء قورينا وإن كان ليس بالغريب عليهم ..
أستاذ عبد الله الشلماني .. حدثنا عن بدايتك الشعرية لكي تكون مدخلا منطقيا لما سوف نسأله لاحقاً .
- البداية الشعرية ؟
بدايتي الشعرية كانت مبكرة إلى حد ما . ذلك أنني نشأت في أسرة تحب القراءة ولها مكتبة عامرة بالكتب ومن ضمنها دواوين الشعر فتولدت لدي محبة الشعر نتيجة لذلك .. وأول محاولاتي لنظم الشعر كانت في المرحلة الثانوية وهى لم تكن ناضجة بالتأكيد لكونها بداية لطالب قصير الباع وقليل الخبرة والتجربة .
ـ أيهما أقرب إليك الشعر أم القصة ؟
بصراحة ومع شغفي بالشعر كما ذكرت سابقاً إلا أنني أجد نفسي ميالاً للسرد عامة وللقصة على وجه التحديد . ذلك أنني أجدها وإلى حد ما تشبه القصيدة من حيث أنها تستفز الذهن والقريحة لاختزال المعاني والخواطر والأفكار في مساحة محدودة وعلى نحو إبداعي محكم .. لذلك تجدني مقلاً في الشعر على حساب القصة التي أجد نفسي وأثبت نفسي فيها أكثر من غيرها .. القصة كائن جميل .. نعم .. كائن جميل .. إنها مختصرة .. رشيقة .. كالحلم أو كالطيف .. يسري أمامك بسرعة ولكن يترك أثراً جميلاً . هكذا أراها .
ـ هل لديك ديوان مخطوط ؟
أما ديوان فلا .. لكن مجموعة قصصية نعم .. لدي مجموعة قصصية بعنوان " الجري في منطقة الظل " تقدمت بها لنشرها عبر مجلس الثقافة العام .. لكن يبدو أنها أهملت أو أنها لم تلق القبول والاستحسان من القائمين على المجلس .. على كل حال موضوع النشر في بلادنا موضوع شائك طالما تجنبت الحديث فيه لكي لا " يزعل " مني أحد !
- كيف ترى التعامل الأدبي مع المواقع الإلكترونية ؟
لقد كانت المواقع الإلكترونية هى الكوة التى يتنفس منها الكتاب والأدباء الشباب عبر جدار الإقصاء السميك الذي تفرضه عليهم مؤسسات الثقافة الرسمية . على الرغم من تحفظاتي على كثير من تلك المواقع من حيث أنها " لا ترد يد لامس " فتنشر الغث والسمين .. مما صارت معه السلعة الأدبية النفيسة تعرض جنباً إلى جنب مع" أشياء" مضحكة مما ذهب بكثير من بريقها ورونقها .
- كيف تري الساحة الثقافية في ليبيا ؟
الساحة الثقافية عندنا بخير .. لكن المقلق أنها تعج بالمتسلقين والأشباه .. وأنهم وبكل أسف هم من يمثل الساحة في كثير من تجلياتها .. وأنا لا أقصد هنا أحداً بعينه .. لكن عندما تأتي أنت لحضور مهرجان أو تظاهرة وتجلس لتستمع إلى المشاركات التى تم اختيارها دون غيرها سوف تعرف بالضبط ما الذي أعنيه .. وأعدك ـ لو كنت محباً للأدب ـ بأنك سوف تعود لبيتك مريضاً مصاباً بالصداع والاكتئاب .
- كيف تقيم تجربتك الصحفية ؟
بصراحة تجربتي لا تزال قصيرة في مجال الصحافة .. مع أنني مارستها كاتباً ومحرراً في بعض الصحف المحلية ومارستها في مجال المسموعة معداً ومقدماً للعديد من البرامج وعبر المرئية مراسلاً لقناة " الليبية " الفضائية في مدينتي " مدينة المرج " هذا بالإضافة إلى النشر عبر المواقع الإلكترونية وعبر مدونتي الخاصة على شبكة المعلومات " أرشيف الزمن" .
لكن أعود فأقول يجب الانتظار لمدة أطول حتى أتمكن من تقييم التجربة بشكل أكثر نضجاً وموضوعيةً .
- ما هو أهم أعمالك الإذاعية المسموعة ؟
بحكم أنني نشأت في أسرة ريفية بدوية محافظة فإن روح المحافظة والكلاسيكية تملكتني إلى حد كبير .. وهذا ينعكس على أعمالي الإذاعية أيضاً ..فأنا أقدم برامج شرعية ودعوية عبر إذاعة المرج المحلية .. ولكن لا أعتبر أنها أهم أعمالي هناك .. حيث أرى بكل تواضع أنني " أبدعت " في برنامج اسمه ( حوار في قضية ) وذلك حسب ما يراه كثير من المستمعين أيضاً .
- لمن يقرأ الشلماني ؟
أنا أقرأ للجميع .. ولم يسبق أنني رفضت قراءة شيء بسبب اسم كاتبه فأنا لا أحكم على الكتابات من خلال أسماء كتابها .. وإنما أحكم على الكتاب من خلال نوعية كتاباتهم .. ولعل الصيغة الأنسب ـ من وجهة نظري لهذا السؤال هى : " لمن يحب أن يقرأ الشلماني " . وهنا أقول إنني أقرأ للعديدين على الساحة المحلية والعربية والدولية .. غير أنني وفي الآونة الأخيرة بدأت تركيز قراءاتي على تجربة الكتاب " الشباب " على الساحة المحلية .. تأثرت كثيراً بقراءاتي في أدب الصادق النيهوم مع تحفظاتي على كثير مما كتبه رحمه الله .. تأثرت كذلك بإبراهيم الكوني .. على مصطفي المصراتي .. أحمد يوسف عقيلة .. عبد الرسول العريبي .. وآخرون كثر .
- إطلاعك الديني العميق هل له تأثير على إنتاجك الأدبي ؟
سؤال مهم بارك الله فيك .. وأقول هنا أنه وبخلاف قول الكثيرين بأن الدين هو خلاف الإبداع ، فإن الدين هو أساس الإبداع لأن الإسلام " حب " .. والحب لا يحتاج مني لأن أشرحه للناس لكي يفهموا أنه جوهر الحياة كلها .. والفضيلة كلها .. والنقاء كله .
- من يعجبك من الكتاب الليبيين ؟
أنا أفخر بكل المبدعين الليبيين القدماء والمحدثين .. لكن ربما بسبب تشابه البيئة التى عشت فيها وعاش فيها " أحمد يوسف عقيلة " فإنني أقدمه على غيره مع حفظ الحب والاعتزاز بالجميع .
- أصعب موقف أدبي تعرضت له ؟
إنه يوم أن بعثت بإحدى كتاباتي لمطبوعة محلية فردوا في معرض تبرير رفضهم لنشرها أنني " نكرة على الساحة " دون أن يقرأوا ما كتبت ولو مجرد القراءة ..
" سامحهم الله " .
- هل تعرضت لسرقات أدبية ؟
على حد علمي إلى الآن ( لا ) .. ربما لأن كتاباتي ليست من الأهمية ولا من الإبداع بمكان ، لدرجة أن لصوص وقراصنة الأدب زهدوا فيها .
ـ أيهما أهم لديك : الفكرة أم القافية ؟
حبذا لو اجتمعتا معاً .. لكن لو أن حضور إحداهما لابد أن يكون على حساب الأخري فإنني أقدم " الفكرة " على أي شيء آخر .
ـ سؤال تود الإجابة عنه ولم نسأله ؟
ـ تمنيت لو أنك أخي جمال قد سألتني : " لماذا تكتب ؟ "
رغم أنني لا أملك الإجابة عنه .. وهناك إجابة تقفز إلى ذهني كلما سألت نفسي هذا السؤال وهى مرعبة ومزعجة ولا أتمنى أن تكون هى الحقيقة .. هل تعلم ما هى أخي جمال ؟ إنها " لكي أنال الشهرة " . أرجو ألا تكون هى الحقيقة .. رغم أهمية الشهرة وشرعيتها لمن يستحقها .. لكن لا أتمنى أن تكون هى الدافع عندي للكتابة ..
- ما هو جديدك ؟
مجموعة قصصية جديدة آمل أن تجد من يسعى معها لكي ترى النور .
ـ كلمة أخيرة ؟
شكراً جزيلاً لكم لقد كنتم أول من أهتم وأجرى مقابلة معي .. وهذا يعني لي الكثير وسيظل يعني لي الكثير . شكــــراً لكـــــم .

الجمعة، 13 نوفمبر 2009

مذكرات راقد ريح





بقلم / عبدالله الشلماني

( الخيبات المتناسلة )
كلمة " باتي " في لهجتنا الدارجة بشمال شرق ليبيا ترادف بالفصحى كلمة " أبي " .. وربما – أقول ربما – تحورت عن كلمة " أبتي " الفصحى أيضاً والتي تحمل نفس الدلالة مع زيادة في معنى التودد للأب والتحبب إليه حين مناداته .. إذاً فكلمة " باتي " في العامية هي كلمة " أبتي " في الفصحى ولكنها ( مبعثرة ) كما يحلو للصحف والمجلات أن تقول في لعبة الكلمات المتقاطعة ..
ما جعلني أتوصل إلى هذا الإكتشاف اللغوي " العظيم " هو طول التأمل في هذه الكلمة عندما كنت جالساً على عتبة بيتنا وسمعت أطفال جارنا يرددونها بمجرد رؤيتهم لسيارة أبيهم قادمة من مدخل الشارع فانطلقوا صوبها كالصواريخ وهم حفاة يعيدونها ويكررونها بصوت جماعي واحد ومموسق على طريقة التقطيع العروضي للشعر :
- ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) .
أي بمعنى : ( أبتي جاء ، أبتي جاء ) .. أجل .. كان هذا هو التحليل اللغوي لما قاله أولئك الأطفال .. لكنني تساءلت بعده عن التحليل " النفسي " لفرحة أولئك الأطفال وعَدْوهم نحو أبيهم بتلك الطريقة العجيبة وعن سر سعادتهم برؤيته قادماً .. وقد أجابني جارنا عندما سألته بهذا الخصوص فكانت إجابته بالنسبة لي اكتشافاً لا يقل عظمة عن " الإكتشاف اللغوي " .. ولكي أجعلكم تعيشون معي الحدث كاملاً فسأعيد الشريط إلى الوراء لنبدأ من البداية :
- ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) .
السيارة تتوقف .. يُفتح باب السائق .. يترجل الأب فيما يتدافع الأطفال إلى الداخل من ذات الباب وفي نفس الوقت تقريباً .. يخفت صخب الأطفال رويداً رويداً ويتلاشى والأب واقف يتأملهم صامتاً .. ينزل الأطفال في صمت أيضاً .. يعود الجميع إلى داخل البيت في موكب صامت .. واجم .. ثمة خيبة أمل بدت واضحة على وجوه الأطفال والوالد معاً .. قبل أن يدخل جارنا لبيته ناديته لأستفهم :
- " بو جار ؟ .. شنو الجو ؟ " .
التفت .. تردد قليلاً .. ثم يبدو أنه حسم الأمر وقرر المجيء نحوي .. همس متنهداً وهو ينفض مكاناً على العتبة ليجلس بجواري :
- " شنو الجو ؟ " .
.. بعد محاورة مقتضبة مع جارنا فهمت أن الأطفال كانوا بانتظاره ليحضر لهم هدايا النجاح بالمدرسة والتي وعدهم بإحضارها فور قبض الراتب .. وهي – للعلم – مجرد ألعاب بسيطة .. بالونات ملونة ومسدسات بلاستيكية لرش الماء لا يفوق ثمنها كلها العشرة دنانير .. وفهمت أنه رجع من المصرف خائباً تماماً كخيبة الأطفال عندما لم يجدوا الهدايا داخل السيارة لأن المرتبات تأخرت في النزول عن وقتها المحدد لأكثر من أسبوع .. دخل جارنا إلى البيت يجر رجليه جراً وقد نودي لتناول الغداء .. وبقيت أنا أفكر وحيداً على عتبة البيت .. تأملت ملياً في سر هذه العبودية المقيتة والرق المخزي للوظيفة في بلادنا .. حاولت العثور على إجابات لتساؤلات كثيرة أخذت ترتسم في ذهني .. خلصت في النهاية إلى أننا – ومع قلة عطائنا وتفانينا – لا نتقاضى من وظائفنا ما يوازي همّ عبوديتنا لها ورِقّنا لراتبها .. لو كان الراتب مجزياً لأمكن لأحدنا على الأقل أن يحتمل " ثقالة " المدير حينما يمارس شعائره وطقوسه الصباحية المعهودة بمجرد أن يرى أحدنا مقبلاً من الباب فينظر إلى ساعته بعين ويغمزنا بالأخرى ممططاً شفتيه :
- " وين ياسيدي ؟! .. هلّ هلالك ! .. صحّ النوم ! .. ) .
علماً بأن السيد المدير لم يكن ليأتي أبكر من الجميع لولا خوف فوات تلذذه واستمتاعه بهذه " الثقالة " .. وكأن السيد المدير نسي – أو تناسى – أن يلوم إضافة للومه أولئك الموظفين " الرقيق " لتأخرهم ، أن يلوم تلك الدولة العاجزة عن توفير وسائل المواصلات العامة الرخيصة والعملية بدل مجيء أغلبهم على الأقدام أو في حافلات " الربع دينار " .. كما نسي أو تناسى أن هذه الدراهم التي يتقاضاها الموظفون أصبحت أضحوكة العالم بأسره ، والذي شهد تضاعفاً للأسعار لعشرات المرات منذ آخر تعديل في القانون الليبي للمرتبات والأجور .. فالسيد المدير في العادة يركب سيارة الدولة ويمونها مجاناً بوقود الدولة وله مصادر مالية أخرى بديلة هي في الأغلب من أموال الدولة .. فكيف تستغرب منه الثقالة إذاً ؟ ..
.. في أثناء استغراقي وإبحاري في هذه الأفكار والخواطر يرن جرس الهاتف النقال في جيبي .. على شاشة الهاتف رأيت اسم زميلي في العمل .. أجبته :
- " آلو .. خير يا .... " .
قاطعني مبشراً إياي وهو يصيح :
- " المرتبات قالوا نزلن اليوم .. والله قالوا نزلن توا .... " .
قاطعته بدوري ضاغطاً على الزر الأحمر الذي ينهي المكالمة .. الفرحة تغمرني .. وقفت .. أخذت طريقي للمصرف وأنا أعدو ولسان حالي يقول :
- " با .. تي .. جا .. " .
.. ثم تذكرت أثناء الجري - وبعد ذهاب سَوْرة الفرح - أن الوقت لا يكفي للوصول إلى المصرف قبل نهاية الدوام .. وأن زميلي لم يعلم أصلاً بقصة إحالتي " للمركز الوطني " منذ أيام .. إضافة إلى أنني لم ألبس " شبشب " النايلون الذي خلعته عند العتبة ممدداً رجلي هناك ..
توقفت .. وعدت من منتصف الشارع أجر رجليّ جراً .. حافياً كما أطفال جارنا .. خائباً تماماً كخيبتهم .. وقبل أن ألج من الباب سمعت صوت جارنا الآخر وهو يناديني محاولاً أن يستفهم :
- " بو جار ؟ .. شنو الجو ؟ ) .

الخميس، 25 يونيو 2009

البطشة


( 1 )

الباب الخشبي موصدٌ ومقفل من الداخل .. المرفقان على سطح المنضدة .. فيما القبضتان معقودتان على جانبي الوجه كدعامتين للرأس المطرق .. وثقل الرأس على القبضتين أدى إلى شد طرفي الجفنين لأعلى ، حتى بدت عيناه مثل أعين الصينيين .. لاشيء يكسر صمت المكان ، خلا صوت المذياع يدندن خافتاً بأغنيةٍ قديمة ..

- لا يبدو العدو قريباً ..

قالها في نفسه ، وهو يحدق ساهماً في إحدى خرائط كتاب " مباديء الجغرافيا " الموضوع أمامه فيما كان يحاول المذاكرة .
بطريقةٍ لاإرادية ، وبحركةٍ آلية صرفة ، تناول المسطرة من مكانٍ ما على المنضدة ربما ، أو ربما تحتها لم ينتبه .. ثم تَمتمَ :

- حسناً .. نحن نقبع هنا .. والعدو يربض هناك ..

أخذ يقيس المسافة بين النقطتين .. بحسب مقياس الرسم أسفل الخريطة ، كانت تفصل بينه وبين العدو آلاف الأميال . تنفس بعمقٍ مستشعراً نوعاً من الأمن والطمأنينة .. راح يتأمل منبهراً كيف أن كل ملليمتر على هذه المسطرة الصغيرة، يمثل ما يعادل أضعافَ أضعافِ المسافة من (( البرَّاكة )) التي يقطنها إلى (( كاف العشَيْشِيَّة )) حيث يرعى الماعز كل يوم . وعند هذه اللحظة بالذات ، تذكَّر (( البطشة )) التي وجدها عند هذا العصر ملقاةً بين الأعشاب قرب الكاف . أخرجها من جيب سترته:

- هل يُعقل ..؟ أن المسافة من هنا إلى حيث وجدت هذه البطشة ، والتي أقطعها لاهثاً وراء القطيع على مدى أكثر من ساعتين كل يوم ، هي فقط هذه النقطة الدقيقة التي لاتكاد تُرى بالعين المجردة على المسطرة ..؟ لا عجب إذاً فيما أسمعهم يرددونه في المذياع من أن الكرة الأرضية قد أصبحت قريةً صغيرة ..!!؟

( 2 )

أخذ يُقلِّب البطشة بين أنامله متخيلاً أنها الكرة الأرضية . وراح يتخيل نفسه واقفاً عليها بذات النسبة الحقيقية بين حجم الإنسان والكوكب .. تأمل ملياً .. انشده .. هل يُعقل ..؟.. قرَّبها إلى وجهه محاولاً رؤية حجمه وهو واقف فوقها .. لم يرَ شيئاً .. قرَّبها أكثر .. احولّلت عيناه .. أخذه الفزع .. تلاحقت أنفاسه .. انتقع وجهه وهو يهمس :

- اللعنة .. كم هو عالمٌ صغير .. العدو ليس بعيداً إذاً .. نحن على البطشة ذاتها ..؟ .. ياساتر..

على الخريطة، رأى المسطرة وقد تحولت إلى جسرٍ عظيم ، يربط ما بين "البرّاكة" وعاصمة العدو . ورأى الدبابات تعتلي الجسر من جهة العاصمة اللعينة ، متجهةً إلى البرّاكة مصوبةً المدافع نحوها . أصواتها مرعبة .. الطائـرات كذلك أقلعت صـوب البرّاكة .. رصدها تقلع من إحدى القواعد على البطشة هذه المرة .. دوي الإنفجارات يزلزل أركان البراكة .. بيانات عاجلة عن وقوع غارات بدأت تصدر عن المذياع بدلاً من الموسيقى التي توقفت فجأة ، إضافةً إلى بيانات شجب واستنكار على لسان سكرتيرة فخامة الـ " ؟؟؟ " .. إلى أين سيهرب الآن .. ؟ انتصب واقفاً .. الزعيق والعويل يملآن المكان .. ماذا يفعل .. ؟ إنه مضطربٌ يشلُّه الخوف .. كيف سيدافع ؟ الحذاء .. أجل الحذاء .. (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة )) .. أمسك برقبة حذائه الموحل وجعل يدكُّ به البطشة .. ثم تردد :

- لا ذنب لستة مليارات من سكان الأرض فيما يقترفه العدو ، لأسحقهم بحذائي الموحل . سأسحق عاصمة العدو على الخريطة .. سأباغتهم من الخلف في عقر عاصمتهم بينما تزحف الدبابات والطائرات إلى هنا ..

بدأ يدك العاصمة بشراسة وعنف .. تطايرت الأشياء من فوق المنضدة .. اشتد الضجيج .. أزيز الطائرات وهدير الدبابات وصراخ الثكالى وأناشيد المذياع الحماسية ودعاء القنوت في المساجد .. استبد به الحماس .. واصل دك العاصمة ببسالة وهو يصيح :

- " لا صوت يعلو فوق صوت المعركة " .. الله أكبر .. الله أكبر .. " وليخسأ الخاسئون " ..

( 3 )

والده يصرخ خارجاً هو الآخر ، مزحزحاً الباب الموصد والمقفل من الداخل :
- أسكت .. أسكت ياابن الكلب .. هل هذا وقت مطاردة الفئران !؟ نريد أن ننام يا " بنادم " ..

الأربعاء، 20 مايو 2009

وجئتكم من درنة بنبأ يقين

( جانب من الحضور وتظهر 1- حواء القمودي 2- عاشور بوشوق وآخرون )
مهرجان إيراهيم الأسطى عمر الأول للفكر والفنون الذي نظمته جمعية بيت درنة الثقافي .. هذا الحدث الذي أثار عواصف وزوابع على الساحة الثقافية الليبية حتى قبل أن يبدأ .. صراع المؤسسة الرسمية للثقافة التي تفرض نفسها راعياً أوحداً ( لا شريك له ) للحراك الثقافي ، ومؤسسات المجتمع المدني والعمل الأهلي - ممثلة في بيت درنة الثقافي - والتي تناضل للحصول على دور في ذات الحراك .. مقالة نارية تنعت بأوصاف ومضامين واتهامات التخوين والعمالة والتسويق لأجندات خارجية كل القائمين على تنظيم المهرجان نشرت في صحيفة الشمس - الرسمية - تستبق المهرجان بأيام دون أن تحمل اسم كاتبها .. وردود لا تخلو من الحدة والجرأة وردت في مواقع ألكترونية ليبية على ألسنة وأقلام بعض أولئك المنظمين للمهرجان .. ونقطة الخلاف هي اشتراط المؤسسة العامة للثقافة لكي تنفق على المهرجان استثناء جزء من أنشطة المهرجان وهو ندوة عن دور مؤسسات المجتمع المدني ، مما دفع بالمنظمين للبحث عن تمويل من غير تلك المؤسسة - وهو الذي حدث - فكان الذي كان من هذا اللغط ..
في الواقع كنت أنوي حضور فعاليات المهرجان منذ البداية .. ولكن وبعد هذا الشد والجذب أصبح حضوري للمهرجان أمراً ملحاً أكثر وأكثر .. إنه الفضول للإطلاع عن كثب .. شحنت "كاميرتي" الرقمية الصغيرة وجهاز الكمبيوتر المحمول وحزمت حقيبة الظهر وتوجهت إلى هناك .. إلى درنة
( 1- سالم العوكلي 2- هشام الشلوي 3- أحمد الفيتوري )
لم أجد هناك شيئاً غير اعتيادي .. أصبت بالخيبة إلى حد ما .. لا أدري .. ربما لأنني كنت أتوقع أن الأحداث ستكون أكثر دراماتيكية .. هكذا .. تتوقع الإثارة فتتفاجأ بالعكس .. ربما ترون شيئاً من السطحية في هذا الطرح .. لكنني كنت صريحاً معكم في وصف ما شعرت به .. أحياناً يطفو على السطح سلوك الأطفال في داخلنا .. هذا هو الواقع .

( 1- عبدالقادر الدرسي 2- سالم بن زابيه )
مهرجان عادي وبسيط وجميل في مراسمه وأماكن مناشطه .. أما المناشط ذاتها فهي لا تختلف عن مثيلاتها المعهودة في بقية المهرجانات والمحافل الثقافية الأخرى في ليبيا .. أمسيات شعرية ، قراءات نقدية ، عروض مسرحية ، معارض فنية لصور ولوحات ، وشخصية للمهرجان ( الأستاذة الراحلة المربية فتحية عاشور ) .. حتى ندوة مؤسسات العمل المدني التي قامت الدنيا من أجلها ولم تقعد لم تأت بجديد - من وجهة نظري على الأقل - يضاف إلى ما عندنا حول موضوعها .. المميز حقاً وفعلاً في هذا المهرجان كان هو لطف وكرم ( الدراونة ) .
( 1- عبدالله الشلماني 2- محمد الشلطامي )
تنظيم رائع تلفه وتدثره الحميمية إلى حد كبير .. لم أكن مدعواً رسمياً .. فأنا وكما تعرفون ( راقد ريح ) .. لكنني أصررت أن أسافر إلى درنة وأسكن وآكل وأتنقل على نفقتي الخاصة .. وقد كنت سعيداً بذلك برغم ( رقادة الريح ) .. لكن ما آلمني وجرحني في العمق هو تجاهل بعض من كنت أظنهم أصدقاء لوجودي .. لا ألومهم بل وألتمس لهم العذر .. ربما اعتقدوا أنني سأتطفل عليهم وأتملقهم لأحصل على غداء مجاني أو مبيت بالفنادق المخصصة لهم .. وللأمانة أقول : هم قلة .. أقل من أصابع اليد الواحدة " التي بترت منها ثلاثة أصابع " .. أخذتني الكبرياء إلى مكان قصي من العزلة عنهم .. تجاهلتهم بدوري .. قلت في نفسي ( عزّ نفسك يعزّها الله ) ..

( 1- علي أحمد سالم 2- أحمد يوسف عقيلة )
أجمل ما في هذه الملتقيات هو اكتساب الأصدقاء الجدد ( بدل من نفقدهم على الأقل ) .. تعرفت على كثيرين وتعرفوا هم عليّ .. تبادلنا العناوين والهواتف .. تناقشنا وتطارحنا الكثير من قضايا الوطن وهموم الفكر والثقافة والأدب .. تلاقحت أفكارنا وتمازجت فعدنا إلى بيوتنا بتجربة وبخبرة أكثر عمقاً ..

( الشلماني يصافح بوشوق في طريق مغادرته للمكان )
قلت لكم في البداية أنني لم ألاحظ شيئاً غير اعتيادي .. لكنني أعترف أن المهرجان حدث أتمنى تكراره في درنة وفي بقية مدننا وقرانا الرائعة على امتداد تراب هذا الوطن .. لأنه نوع من إيجاد وعي وحس بالإنتماء لدى الناس .. نوع من خلق الذائقة الجمالية عند النشء .. ترسيخ واقعي وعملي لمفهوم الثقافة والفكر والمعرفة والفن في ذاكرة ووجدان المجتمع .

( 1- علي الربيعي 2- أمين مازن . ويظهر في الخلفية : فوزي بن كاطو )
هناك أمر آخر لاحظته لا يقل مرارة عن تجاهل من كنا نظن لوهلة أنهم أصدقاء .. إنه التعالي والعجرفة عند البعض الآخر ممن حسبنا يوماً أنهم كبار .. سبحان الله .. كم تتهاوى القامات السامقة عند انزلاقها في هوة التكبّر .. قرأنا لهم فأحببناهم من كل قلوبنا .. التقيناهم فنزلوا في أعيننا من علياء سمو المحبة إلى حضيض قعر الإزدراء .. ليتني بقيت قارئاً لهم وحسب .. ليتني لم ألتقهم .. بل الأصح أن أقول : ليتهم لم يكونوا كذلك .. ترى هل خلقت أيها الأديب من طينة غير التي خلق منها ( آدم ) ؟ .. أبلغت شأواً في المعرفة يدفعك لعدم مخالطة الدهماء كي لا تصيبك عدوى جهلهم ؟ .. أم تراك صرت أكبر من الوطن وأهله ؟ .. ( اللهم لا تجعلني منهم ) ..
( حفل الإختتام 1- أمين مازن 2- راشد الزبير السنوسي 3- أحمد الغزواني . وآخرون )
تلاحظون أنني لم أتناول بشكل متخصص أياً من نشاطات المهرجان .. لم أسجل لكم انطباعات عن لوحة أو صورة .. لم أورد قراءة في قصيدة أو أدلي برأي في موضوع نقاش فكري أو عرض مسرحي .. ربما ستجدون ضالتكم بهذا الخصوص في أماكن ومواقع أخرى أكثر دقة وتخصصاً وأوسع مساحة .. كل ما أردت أن أفعله هنا هو أن آخذكم إلى هناك .. إلى درنة .. أن أفتح لكم نافذة صغيرة تطلون من خلالها على الحدث من زاوية مختلفة .

( مدخل بيت درنة الثقافي .. مبنى كنيسة إيطالية بمدينة درنة القديمة )

منذ أن بدأت بالإحتكاك بالملتقيات والمحافل الفكرية والثقافية في بلادنا منذ فترة ، وأنا أتفاجأ في كل مرة بأمر يصدمني .. إما سلباً أو إيجاباً .. لكنني اكتسب في كل مرة المزيد من المعرفة والخبرة كما قلت آنفاً .. أستطعت أن أكون إلماماً كافياً بالتركيبة المعقدة ( لإثنوغرافيا ) الثقافة في بلدي إن جاز التعبير .. هل تعلمون أن المثقفين عندنا " أقصد أغلبهم " ينتمون لإثنيات وعصبيات ونعرات متباينة ومتشاكسة ولكنها فكرية وليست عرقية ؟ .. في مهرجان الأسطى الأول بدرنة أيضاً تجلت تناقضات ومشاكسات هذه التركيبة المعقدة .. حتى بين مثقفي درنة أنفسهم .. نصفهم غاب عن المهرجان احتجاجاً على النصف الآخر الحاضر .. ومع ذلك يبقى مهرجان درنة موعداً للفرح نتمنى أن نرى نسخته الثانية في العام المقبل .. إستمعنا إلى قصائد رقيقة .. تناقشنا في قضايا هامة .. شاهدنا ألواناً زاهية ولوحات وصوراً رائعة وعروضاً محترمة .. التقينا .. وذلك هو المهم .


( في داخل البيت الثقافي . والشلماني وبن زابيه في آخر الصورة )

رجعت لبيتنا وفرّغت الصور على الحاسوب وأعطيتكم عينة منها .. أتمنى أن تعجبكم .. حاولت أن أتجول بكم هناك .. لعلي أكون قد وفقت ولو قليلاً .. أعرف أن معظم ثرثرتي السابقة كانت انطباعات شخصية ومشاعر خاصة .. لكنها تظل جزءاً من الحدث .. أليس كذلك ؟

إلى اللقاء قريباً ..

السبت، 16 مايو 2009

عصفور المقهى ( قصة قصيرة )

( إلى حمد بن رحومة )
( أخي الذي لم تلده أمي )
بقلم / عبدالله الشلماني

( 1 )

... طابورٌ طويلٌ من ( الخرّازين ) السودانيين على الناصية قُبالة المقهى في ساحة سوق (( الجمهورية )) . كلٌ منهمكٌ في ما بين يديه من الأحذية البالية ، محاولاً إصلاح ما أفسده طول المسير . " القهواجي " المصري جالسٌ على صندوق مشروب " البيبسي " الفارغ أمام التلفاز ، يُشاهد موقعةً حامية الوطيس بين الأهلي والزمالك ، في انتظار زبون ربما يدخل طالباً شطيرة " دحي بالتن " ..

كلُ شيءٍ في المقهى يوحي بالعدم .. بالموت .. باللاروح .. جدران متصدعة أكلتها الرطوبة . مناضد ومقاعد بلاستيكية متناثرة بغيرما انتظام . أرضية صلدة من البلاط الخشن سيء الصنع . وبضع اسطوانات غازٍ فارغةً عند الزاوية خلف ضلفة الباب المعدني الصّدئ . وعلى ذات الضلفة من الخارج عبارة مكتوبةٌ هكذا باللهجة المصرية : " خود راحتك يازمن ". لاأثر للحياة هنا .. لانبض ..!. لاألوان ..!. لادفء ..!. الجماد لوحده هو العنوان الذي يختزل الحيِّز واللحظة في آن معاً ..

( 2 )

... فجأةً يتغير كل شيء .! تعود الألوان إلى الصورة الباهتة .. تبتسم الجمادات في المقهى .. ترتعش .. تسري فيها روحٌ خفيةٌ تكاد أن تجعلها تتنفس .. حتى أسلاك الكهرباء المتشابكة في فوضىً عارمة والمتدلية من مؤخرة السقف ، توشك أن تتحول إلى أغصان نضرة لعريشةٍ حُبلى بالعناقيد . كل هذا حدث أمامي في لحظةٍ واحدة . لحظةَ أن ولج إلى المقهى كائن صغير بحجم قبضة اليد .

( 3 )

هكذا هي بعض الكائنات .. تُحيل الجحيم إلى جنةٍ بمجرد حلولها فيه . والعكس صحيح .. " الفضيل بوراغب " ، ذلك العجوز من مدينة (( مطروح )) ، والذي عمل ردحاً من الزمن راعياً لقطيعنا , يعتبر من تلك الكائنات التي تبعث الحياة في الأشياء . في ذلك اليوم منذ أعوامٍ خلت رأيته يفعل ذلك .. يومها ، إستأجرنا شاحناتٍ مخصصةً لنقل المواشي لكي تنقُل قطيعنا إلى الصحراء الجنوبية . هرباً من صقيع شتاء الساحل وطلباً للكلأ في تلك التخوم .

حين وصلنا إلى هناك ، كانت جلبة نباح الكلاب ، وسِباب سائقي الشاحنات ، والإنهماك في إنزال النعاج والعلف والأمتعة ، والعكوف على بناء الخيمة الصغيرة ، كل ذلك ، شكَّل غلالة سرابية من الغفلة لم ننتبه معها إلى شيء . ولكن .. وفور مغادرة الشاحنات والفراغ من توظيب الأمتعة ، تلاشت تلك الغلالة كاشفةً لنا عن وجه الصحراء القبيح .. حيث أطبق الصمت .. والسكون .. مفسحاً المجال لنشيجٍ مفجعٍ للريح ..

.. الوجوم بدا على الجميع .. حتى النعاج والحملان ، بدا عليها الإحساس بالشجن والغربة ، فأخذت تحدق إلينا ناصبةً آذانها الصغيرة وهي تثغو باستجداءٍ يثير الشفقة . ومما زاد من وحشة المكان ، أُفول قرص الشمس إلى الأفق الغربي وراء التلال المجدبة ، فأضفت العتمة شيئاً من الرهبة على المشهد .. وفجأةً كما في المقهى ، تبدَّى لنا وجه " بوراغب " على وميض ألسنة اللهب .. التي انبثقت من نارٍ طفق يسجرها لإعداد الشاي ، بتجاعيده وابتسامته الودودة التي نادراً ما كانت تفارق مُحياه .
حول النار ، تحلقنا معه نتسامر و نحتسي كؤوس الشاي الأخضر " المنعنع " ونتجاذب أطراف الحديث .. عندها تغير كل شيء .. أُنسٌ غريب بدَّد مااعترانا من وجوم .. عندها فقط .. شعرنا أن الحياة قد عادت إلى الصحراء . وأن شيئاً من الأُلفة والحميمية معها بدأتا تأخذان مكان الرهبة والوحشة . وعندها فقط .. خالجنا إحساسٌ بأن الصحراء قد تبدّلت إلى مروجٍ بهيجةٍ تعبق بالأريج .

( 4 )

إن ذلك العصفور الصغير بحجم قبضة اليد ، والذي راح يزقزق ويتقافز على الأرضية الصلدة ، إستحال معه كل شيءٍ في المقهى إلى فرحٍ غامر . تماماً مثلما استحالت الصحراء مع " الفضيل بوراغب " . وليس ثمةَ من شكٍ أن تلك الصحراء قد رجعت مواتاً ويـباباً كمثل ماكانت عليه حين غاب عنها " بوراغب " منذ سنواتٍ عائداً إلى مطروح .. مبعثُ هذا اليقين عندي ، هو أنني قد رأيت كل شيءٍ في المقهى قد رجع إلى مثل ما كان عليه ، بمجرد أن طار عنه العصفور الصغير مرفرفاً إلى حيث الزُرقة والإتساع ..!!

الأربعاء، 13 مايو 2009

( فنجان قهوة ) بقلم / عبدالله الشلماني

( الشلماني وحبيبته بين يديه )
لا يمكنني أن أتخيل حياتي بدون فنجان القهوة .. إنه رفيقي الدائم .. البعض قد يتخذون رفاقاً من نوع آخر .. نوع سيء جداً .. سيجارة مثلاً .. أو أنواع أخرى أكثر سوءً أنتم تعرفونها جيداً ( عافاني الله وإياكم منها ) .. أما أنا ففنجان القهوة - وإن كان سيئاً عند بعض الأطباء – فهو يمثل لي ورغم ذلك عنوان كل صباح .. لدرجة أنني أصبحت في كثير من الأحيان أجد عناءً في البحث بالمحلات و( السوبرماركتس ) ودكاكين العطارة عن أنواع فاخرة من "البن" تتناسب ومزاجي الدقيق في شرب القهوة .. أختار بعناية أنواعها ونكهاتها وأمكنة صنعها بل وأتكلف مالاً جراء ذلك ..
وبسبب ولهي وتعلقي بالمطالعة والكتابة واللتين أتفرغ لهما في الليل عادة طلباً لهدوء المساءات وسكينتها ، فإن القهوة تمسي حينذاك من الضرورات واللوازم .. فتجدونني أتوجه إلى المطبخ في آخر الليل لأغلي القهوة ، وربما تسببت بالضوضاء وأزعجت النيام من أهل البيت عندما تسقط مجموعة من الأواني على الأرض أو عندما أبحث عن أعواد الثقاب فأقلب المطبخ رأساً على عقب .. وكم ضحكت عندما عدت إلى البيت ذات يوم فوجدت شقيقي قد اشترى لي موقداً صغيراً ( بريموس ) وقال لي :

- " طيّب قهوتك في حجرتك وفكّنا من إزعاجك " .

قهوة " العشية " بالنسبة لي أولوية قصوى .. وعندما أكون صائماً في شهر رمضان أو غيره فالفنجان بجوار التمر والماء .. أشاهد التلفزيون أحياناً فيأتي مشهد أو صورة عابرة لقهوة أو شخص يشرب القهوة فتتحرك عواطفي تجاهها وأطالب من بجانبي أن يعد لي فنجاناً ..عندما أسافر آخذ معي مقداراً من ( البن ) تحسّباً لئلا أجد ما يناسب مزاجي منه في المكان الذي أسافر إليه .. وعندما أزور بعض الأصدقاء أو الأقارب ويقدمون لي قهوتهم – والتي نادراً ما تعجبني – أرى في عيونهم ترقّباً وعلى شفاههم ابتسامةً بانتظار تعليقي على مذاقها ، لأنهم جميعاً يعرفون قصتي مع القهوة .. لا أدري ما إذا كان عشقي للقهوة شقاءً وعذاباً أم هو متعة وانسجام .. المهم أنني أعشقها وحسب .. هل تعلمون أنني أكتب الآن هذه السطور والفنجان بجانبي ؟ .. بعد إذنكم ..لقد برد الفنجان وعلىّ الآن أن أسخنه .. " ع البريموس " ..!! إلى اللقاء ..

مذكرات راقد ريح

( راح سوّك )
بقلم / عبدالله الشلماني
الموت ولا شك ليس نهاية للحياة بقدر ما هو بداية لحياة أخرى .. أو بالأحرى هو البداية الحقيقية للحياة .. مقدمة لولادة ثانية .. حين سنولد جميعاً من رحم الأرض بعد مخاض طويل في أحشائها .. ولادة سنواجه بعدها مصاعب جمة وأفراحاً جمة بحسب مقادير كل منا .. تماماً كالمصاعب والأفراح التي تنتظرنا بعد الولادة الأولى .. غير أن تلك التي تنتظرنا بعد الولادة الأولى مؤقتة وأقل تأثيراً ، فيما التي تنتظرنا بعد الولادة الثانية أبدية وأعظم شأناً ..
لطالما كانت هذه هي فلسفتي وقناعتي بحقيقة الموت .. والتي جعلتني دائماً أقف حياله موقف المتعايش والمتأهب لأن يجعل ما بعده مما عظم شأنه متعلقاً فقط بالأفراح .. لكن عندنا في ليبيا يبدو أن القناعات والفلسفات لا بد من تغييرها - أو على الأقل تحويرها – بين الحين والآخر .. ليس تشكيكاً ولا طعناً في الحقيقة السابقة " معاذ الله " .. وإنما تماشياً مع بعض الإستحقاقات ومرونة تجاه بعض الظروف .. هل أسمع من يسألني كيف ؟.. حسناً فاستمعوا إذاً :
توفي قريبنا بعد معاناة طويلة مع المرض زار خلالها أغلب دول الجوار .. ليس للنقاهة .. بل بحثاً عن علاج يناسب حالته العصية على "طبّ ليبيا" .. باع ( اللي فوقه واللي تحته ) ليصرف أمواله على أعتاب مستشفيات ومصحات تونس ومصر والأردن ، ثم عاد في النهاية يائساً ومنتظراً ساعة الرحيل .. جرس الهاتف الجوال يوقظني من النوم عند الساعة الثالثة فجراً ليخبرني بوفاة قريبنا مختتماً خبر النعي بقوله :

- " راح سوّك " !؟

.. ما أن أيقظت من بالبيت وأخبرتهم الخبر وتجهزنا للخروج إلا والصبح قد أسفر .. وصلنا .. إنها ساعات النهار الأولى .. الخلق يتقاطرون ويتجمعون أمام بيت المتوفى .. أصوات العبرات والنحيب تختلط بأصوات المعزين والمواسين .. تتزايد أعداد الوافدين على المكان .. تتضاعف .. يكتظ المكان .. أرتال السيارات لا تنقطع وهي تتوالى سيارة بعد الأخرى أمام الباب لتنـزل حمولتها من النساء والأطفال داخل البيت ثم لتصطف مع سابقاتها على الناصية مغلقةً الشارع على المارة .. وليترجّل سائقوها في ضوضاء وصخب وبكاء :
- " يانا عليّ يا بوي يانا عليّ .! يانا علاااااااي ياخوي ورفيقي يانا عليّ .! " .
فيما تسمع صيحات أخرى ممن فرغت شحنة بكائهم :

- " راح سوّك .. راح سوّك " .

أما نحن أقارب المتوفى فقد جلسنا مذهولين لألم حرارة الفراق .. لم نهتم لشيء ولا انتبهنا لأحد .. كلنا .. أبناء المتوفى وإخوته وأعمامه وبنو أعمامه وكل أقاربه .. لكن تبرز في مثل هذه المواقف عادة شخصيات لها صفات ومواهب ( قيادية ) هي في الأغلب من غير الأقارب .. ينتدبون أنفسهم للإتصال بتشاركيات تأجير الخيام والسرادقات والكراسي ولوازم المناسبات التي من هذا النوع .. كما يتصلون بالجزار ليفتح لنا حساب بيع لحوم بالدين طيلة أيام المأتم .. ويتفقون مع محلات المواد الغذائية و المعدات المنزلية لجلب الشاي والسكر والأرز والزيت و( الطناجر ) والأكواب والمناشف ، بل وحتى الصابون والنعناع وحفّاظات تبريد المياه و( مكبر صوت ) للنداء على زوجات المعزين حين مغادرتهم ، وبقية الكماليات مما تتطلبه وتقتضيه خدمة وجبات ومشروبات " المعزين " ورفاهيتهم .. إضافة إلى إنهاء إجراءات الدفن من موافقات رسمية وتغسيل وتكفين وإعداد ( الحفرة ) وكل شيء ..
شعرنا مع هذه المساندة القوية أن الناس يشاركوننا حزننا ومتعاطفون معنا .. يتكفلون بكل شيء .. شباب ورجال من الجيران والمعارف يلفون حول رؤوسهم "مناشف" بطريقة تشبه العمائم تعبيراً عن الجاهزية والإستنفار ويهرولون في كل اتجاه استجابة لإيماءات المعزين – بعد فراغ شحنة بكائهم – وتلبية لطلباتهم التي لا تنتهي :

- " الشاهي يا لَيْد " .. " موية مسقعة للعرب يا لَيْد " .. " تعال نظّم الكراسي يا لَيْد " .. " نادي علي أهل عمك فلان من جوّة بيش يروّحوا يالَيْد " .

انتظمنا – أقارب المتوفى – في طابور طويل على الكراسي عند مدخل السرادق مثلما طلبت منا ( الشخصيات القيادية ) حتى لا يتعب الناس في البحث عنّا لتعزيتنا .. وبين كل لحظة وأخرى ترى الطابور ينهض واقفاً ثم يجلس في منظر بهلواني مع دخول كل معزّي وذلك بمعدل 8-10 مرات في الدقيقة الواحدة .. إلى الدرجة التي دفعت ببعض المسنين منا إلى أن يظل واقفاً بدل "عذاب" النهوض والجلوس .. وكادت ألسنتنا تتهدّل إعياءً وتعباً ونحن نجامل ونجيب كل من يتعلق بأعناقنا ويقبل خدودنا بحرارة :

س - " راح سوّك " .
ج - " سوّنا وسوّك " .
س - " عظّم الله أجرك " .
ج - " أجرنا وأجرك على الله " .
س – " البركة فيكم " .
ج – " ماريت ما غيّر عليك " .

في الليلة السابعة خلت السرادقات وساد الصمت المطبق بعد أن غادر الجميع .. لم يبق إلا أهل الميت في ركن قصيّ من الخيمة ، وسط فوضى عارمة من الكراسي المبعثرة والأكواب والأواني وبقايا الأطعمة الملقاة في كل مكان .. وفيما كنت (أطقطق) بمسبحتي مطرقاً برأسي وسط هذا السكون الحزين وإذ ( بكبير القيادات ) يطل برأسه من مدخل الخيمة ، ويغمز لي بعينه موعزاً إلىّ أن ( تعال ) .. خرجت إليه فأخذ بيدي إلى العتمة واحتظنني وذرف ثلاث دمعات " ع المرحوم " ثم دسّ في جيبـي دفتراً صغيراً .. أخرجت الدفتر ونظرت فيه وبالكاد أستطعت أن أتبين وسط الظلمة أن مجموع ديون مصاريف المأتم ( ع المرحوم ) هي 8000 دينار !!؟؟ .. فزعت .. تملكني الرعب .. رفعت رأسي لأتحدث مع ( كبير الشخصيات القيادية ) ولأستفهم عن هذه الأرقام ، فإذا هو يلوّح لي مبتعداً "يكفكف" دموعه ويردد :

- " راح سوّك .. راح سوّك " !!؟؟

الأحد، 26 أبريل 2009

مذكرات راقد ريح

العظم الذي في الرئة
بقلم / عبدالله الشلماني

كان أجدادنا الليبيون في أزمنة غابرة يمثلون لصاحب الطالع السيئ والحظ العاثر قائلين ( راقد الريح يلقى العظم في الريّة ) .. وهذا صحيح .. فمن يصدق أن الرئة التي هي أكثر ما يكون طراوة ونعومة من لحم الشواء يمكن أن يجد فيها من يقضمها عظماً يكسر ضرسه أو يهتك شدقه إلا إذا كان فعلاً ( راقد ريح ) ؟.. ولكم أن تتخيلوا كم أنا ( راقد ريح ) عندما تستمعون لهذه القصة العجيبة التي صادفت فيها من العظام في كل رئة حاولت قضمها ما سيجعلكم تقتنعون ( برقادة ريحي ) ..
كنت ذكياً ومجتهداً في دراستي .. لم أضيع في حياتي سنة دراسية واحدة .. طويت المرحلة الإبتدائية في وقتها المحدد .. وكذلك الإعدادية .. في الثانوية أردت دخول القسم العلمي لأنني أردت آنذاك تحقيق حلمي لأكون كابتن طائرة .. وكانت تلك أول عظمة أجدها في الرئة بحياتي .. حين أجهض حلمي برفضهم إلحاقي بالقسم العلمي لأنني تأخرت في التسجيل .. تخرجت من القسم الأدبي لأجد نفسي منسَّباً مسبقاً ودون أي ترتيب معي إلى قسم السياحة بجامعة عمر المختار فرع درنة .. وكانت تلك العظمة الثانية وأرجو ألا تطالبوني بأعداد العظام بعدها لأنها أكثر من أن تحصى ولاحظوا أنني أتحدث معكم فقط عن الدراسة .. تخرجت من قسم السياحة فأردت إتمام دراستي العليا أسوة بزملائي من الدفعة التي سبقتني والتي لم يتخلف أحد منها عن الدراسة العليا – بل وفي الخارج - إلا من رفض أن يدرس ، لأفاجأ – وأنا الأول على دفعتي – أن دفعتنا ليس لها فرصة الدفعة السابقة لسبب لا أزال حتى الآن أجهله .. لم أترك جامعة ليبية واحدة تعتب عليَّ عامة كانت أو أهلية إلا وذهبت إليها راغباً إتمام دراستي فقوبلت فيها بالرفض لانعدام وجود تخصص السياحة فيها ، لكن ما ذنبي إن قذفت بي ( ليبيا ) في تخصص ليس له وجود بجامعاتها بالرغم من إرادتي ؟ يا هووووه .. يا جامعات ليبيا .. ألا هل من تخصص آخر قريب من تخصصي ولو حتى ( بنَّة مرق في طاسة ) ؟ .. أجابتني إحدى الجامعات الخاصة التي تحتاج الدراسة فيها إلى ( مافتح ورزق ) وبعد وساطات ووفادات وسفارات أوفدتها إليها قائلة :

- عندنا ( بنَّة مرق في طاسة ) .. قسم الجغرافيا .. ستحضر في الجغرافيا السياحية .. لكن عليك أن تجلب معك عشرين طالباً آخر لنفتح بكم جميعاً قسم ( استدراك ) .. فأنتم غير مختصين لتدخلوا الدراسة مباشرة .. وبعددكم فقط وليس أدنى من ذلك يمكننا تغطية النفقات ..

.. ( حَيْه بلا ) .. من أين لي بعشرين طالب ؟.. ( يا تاجورا ريتيش عمر ) ؟ حاولت الحصول على منحة للدراسة بالخارج .. قوبلت أيضاً بالرفض مع الإستهزاء هذه المرة .. قالوا :

- أنت لست معيد بالجامعة .. أنت موظف بالبريد .. ( روّح ياراجل ) ..

أيقنت أخيراً أن الأمل بالدراسة هنا ماهو إلا سراب .. في مصر طلبوا مني لكي ألتحق بالدراسة على حسابي الخاص فقط شهادة التخرج وشهادة ميلاد وأربع صور شخصية مع صك إيداع بقيمة قسط الفصل الأول .. مصادقة كلها من القنصلية المصرية ببنغازي .. القنصلية طلبت تصديق الخارجية الليبية .. ( خرّف ياشعيب ) .. ليبيا مرة أخرى ..
أما شهادة الميلاد فصودق عليها من مكتب الخارجية في البيضاء .. وأما شهادة التخرج فتتطلّب السفر لطرابلس للمصادقة عليها من هناك ..
في الخارجية الليبية بطرابلس – وبعد انتظار أربعة أيام كاملة في الفنادق بسبب انعدام وجود دمغات سبقها انتظار نصف يوم في مطار بنينا بسبب كروت صعودنا للطائرة والتي سرقتها ( العصفورة ) - قالوا :

- نريد لكي نصادق على أوراقك أن تصادق عليها أولاً في إدارة البعثات ..
- ياهوووه .. يا خارجية ليبيا .. أنا أدرس على حسابي فما حاجتي أو ما حاجتكم إلى تصديق إدارة البعثات ؟..

شعروا بالضيق من كلامي :

- ( تبي تعلمنا شغلنا ؟ بره لمكتب البعثات يا بنادم .. الخارجية ما تصادقش على أمور الدراسة إلا بتصديق مكتب البعثات ) ..
- ياناس .. ياعرب .. هاهو تصديق فرع الخارجية بالبيضاء على شهادة الميلاد بدون تصديق إدارة البعثات مع علمهم بأنني أريد مصادقتهم لغرض الدراسة .. حرام عليكم ياعباد الله .. أم أن طرابلس دولة والبيضاء دولة أخرى ؟ ..
- ( يا ودي راك سببتلنا صداع .. برة أعطي الدور للي بعدك .. برة تربح ) ..

.. رجعت إلى بيتنا خالي الوفاض .. محاولاً إحصاء العظام التي اخترقت سقف فمي أثناء مضغي رئة الدراسة منذ أن كنت بالثانوية .. فوجدتها تكفي لتكوين هيكل عظمي متكامل لشخص حاول الدراسة ففشل .. شخص ( راقد ريح ) ..

* * *

مذكرات راقد ريح

الحمد لله على نعمة الأكسجين
بقلم / عبدالله الشلماني
في بلادنا كلما اشتكيت همومك كمواطن محروم إلى أحدهم – خاصة المسؤولين - تجده يقول لك :
- ( إحمد الله .. البلادات لخرات قاطعهم الشر ) أو يقول : ( إحمد الله .. العام اللي فات كلوا بعضهم في مجاعة النيجر ) أو يقول : ( إحمد الله .. في الهند قاعدين يمشوا حفايا وعرايا وحالهم عطيب ) أو يقول : ( إحمد الله .. في بلادات برّة حتى قضاء الحاجة في المراحيض بالفلوس ) ..
المهم أنهم يشعرونك بالذنب وبالخجل والعار لمجرد أنك اجترأت على الله وذكرت ( دون حياء ..!! ) أن لك حقوقاً مسلوبة أو حوائج مغتصبة .. وأنك بمطالبتك بأبسط حقوقك استوجبت لنفسك سخط الله لأنك تجحد بنعمته عليك إذ لم يخلقك فلسطينياً يُسام العذاب والجوع في غزة ، أو سجيناً في غوانتانامو ، أو ( جاموسة ) تحرث الأرض في صعيد مصر ، أو ( " سنفوراً " وجارك الخلفي هو " شرشبيل " ) .. وتجد نفسك في النهاية تتنهد هامساً بانكسار– وعن غير قناعة – ووجهك ينتقع حمرةً ، قائلاً :
- الحمد لله ..!!؟
لا أدري كيف يتعامل الناس مع مفهوم الرضا بالقدر وحمد الله والثناء عليه بهذا المنطق المعكوس والفهم المغلوط ؟. نعم الحمد لله على كل حال .. فهو الذي لا يحمد على مكروه سواه .. وأن المسلم أمره كله له خير ، إن أصابته سرّاء فشكر كان خيراً له وإن أصابته ضرّاء فصبر كان خيراً له .. نحن نعرف ذلك جيداً .. لكن لنا طموحاً ذبلت وأحلاماً تبخّرت وشعوراً مقيتاً وقاسياً بالظلم تملأ مرارته أفواهنا .. ليس سخطاً علينا من الله حاشى لله .. بل تطاولاً من الأجلاف من خلقه على الضعفاء منهم .. أفلا يحق لنا على الأقل أن نبكي من ألم ما نجد ؟!.. مجرد أن نشتكي و ( نفضفض ) ؟!.. آه نعم نعم .. صحيح لقد تذكّرت .. تظل الجاموسة المسكينة التي تجر محراثاً في الدقهلية أسوأ حالاً مني .. الحمد لله ، الحمد لله ..
قبل نحو خمسِ سنوات من الآن كنت أخطط – وهو ما لم يحدث - لأن يكون لي بعد خمسِ سنوات طفل يبلغ من العمر خمسَ سنوات !! .. هل تدرون كيف ؟.. ذلك أنني أملت في الزواج يومها حين سمعنا عبر الإعلام أن من يستخرج بطاقة عضوية في روابط الشباب الليبية فهو الوحيد وليس أحد سواه من له الحق في الحصول على شقة سكنية أو قرض استثماري ونحو ذلك في أسرع مما قد يتخيل أي إنسان .. لا أعتقد أن أحداً من جيلي قد نام تلك الليلة .. هرولنا مع أول ضوء للفجر صوب أكشاك تصوير المستندات – وهي المستفيد الوحيد من وعود ليبيا المؤجلة – لاستكمال ملف أوراق البطاقة .. خصّصوا لنا مندوباً عن رابطة الشباب في كل مؤتمر شعبي .. اكتظ مكتب مندوبنا بأصحاب الملفات المملوئين سعادة بقرب دخول القفص الذهبي .. يدهس بعضنا بعضاً ويشتم ويزاحم بعضنا بعضاً .. الأعين جاحظة في محاجرها والعرق يتصبب والأكسجين في تناقص مستمر .. ليس مهماً ، فالشقة تستأهل العناء والعرق بل وحتى الملاكمة إن لزم الأمر .. أنا شخصياً حُجبت عن شباك المندوب أربع مرات بعد أن كدت أصل إليه لولا أن المندوب كان يغضب في كل مرة منها ليغلق الشباك ويصرخ من الداخل :
- ( تنظموا يا بشر ياهوووه .. تنظموا يا متخلفين .. ياسيدي نقوللكم حاجة .. اليوم ما فيش استلام هيا ياسي ) ..
المهم وبعد ملاحم وأحداث جسام وبعد أن خسر بعضنا أسناناً والبعض الآخر بضعة كيلوجرامات من أوزانهم ، وبعد أن خسرنا جميعاً كماً لا بأس به من الملليغرامات من كرامتنا ، تحصلنا على البطاقات .. يومها وعندما وضعت البطاقة الجديدة في جيبي أحسست أنني أضع في جيبي شقة بأربع غرف وحمامين ومطبخ و ( مربوعة ) .. وفي ذات المطبخ الذي في جيبـي تقف عروس تطهو لي ( طاجين حوت ) ..
لكن الشقة التي وضعتها في جيبي مع البطاقة بدأت تصغر مع الوقت شيئاً فشيئاً فصارت ثلاث غرف ثم اثنتين ثم اثنتين وحماماً واحداً ثم اثنتين وحماماً واحداً بدون ( مربوعة ) ثم غرفة واحدة ثم .. والآن هل تدرون ماذا صارت ؟
لقد صارت الشقة المنتظرة منذ خمس سنوات بطاقة مهترئة في مكان ما من بيتنا لا أدري حتى أين هو .. وأما طيف العروس فلا يزال عند مشارف مدينتي مدينة ( المرج ) ، حيث يتم بناء عمارات سكنية ( بطريقة سلحفاتية ) منذ تلك الفترة ، واقفاً فوق ظهر إحدى الجرافات العملاقة التي تمهّد لتلك العمارات وقد تلطخ واصفرّ و ( تجعّد ) فستانه الأبيض ، وممسكاً بطاجين الحوت الذي نبتت في داخلة الحشائش ..
وآخر ما سمعته بل ما رأيته عن هذا الموضوع ( موضوع الإسكان العام ) ، هو أنهم قاموا بحصر الأسر المستأجرة والقاطنة في الأحياء العشوائية - وليست القاطنة في خيالات أصحابها - ليوقعوهم على تعهدات يقسمون فيها بالله ( جهد أيمانهم ) أنهم مستأجرون وليسوا مالكين .. وذكّرتني رؤيتهم فيما كنت ماراً أمام ذات المؤتمر الذي استخرجت منه بطاقتي وهم يتدافعون ، ذكّرتني بمشهد استخراج البطاقات قبل خمس سنوات مضت .. وإذ بالملاكمة والعرق وضيق التنفس والشتائم من داخل الشبابيك الموصدة كما هي منذ خمس سنوات .. وإذ برجل يخرج غاضباً ربما لأنه لم يستطع الوصول ( لحلف اليمين ) وهو يشتكي ويسب ويلعن ويلهث حتى يكاد يغمى عليه .. فأخذت – لوجه الله تعالى – أهديء من روعه وأهون عليه قائلاً :
- ( وسّع بالك .. كل شي مع الصحة والعافية ساهل .. خوذ أنفاسك هي لوّلة .. إحمد الله اللي ما زلت تتنفس ياراجل !!؟؟ ) ..

السبت، 25 أبريل 2009

الدزدان

( أبي .. على ضفاف بحيرة جنيف " سويسرا " )

الدزدان
قصة قصيرة بقلم / عبدالله الشلماني
( 1 )

... أن تجد نفسك بين أشياء قديمةٍ تذكِّرك بماضٍ جميل ، شعورٌ مبهج ، يصعب وصفه أو شرح كنهه بالكلمات .. إلا إذا كان من تتحدث إليه قد عايش ذات الشعور . لقد رحل أبي .. ومع رحيله رحل جانبٌ كبيرٌ من جمال ذلك الماضي . لا أدري لماذا انحسرت الوجوه الطيبة عن الدنيا ؟ ليس فقط أبي .. أنا أعني كل الوجوه الطيبة ؟ تضاءلت مساحات الحنان في القلوب .. أصبح للناس وللأمكنة طابعٌ غير الطابع الأول .. أسفرت أغلب الإبتسامات عن أنيابٍ شرسة .. قبيحة .. الدنيا بدون تلك الوجوه قاحلة .. موحشة .. الليل في غياب تلك الوجوه مخلبٌ ضارٍ يتسلل من تحت الوسادات ، ليغتال السكينة .. لينغرز في الأحشاء مكمِّماً الصرخة أن تفلت .. الصباحات والمساءات متشابهة .. رتيبة .. مجرد اجترار للزمن وللأشياء .. لم تعد الحياة بعدهم مثل ما كانت .
حتى الذين هم حولنا ممن نحبهم ، افترقت بهم الدروب ، وتسربوا داخل تشققات الغياب . دخلت على معادلات معاشهم معطياتٌ جديدة ، صرنا نحن بموجبها خارج تلك المعادلات . لقد رحل أبي .. لأجد نفسي بعده - وأنا في العقد الثالث من عمري - طفلاً يمشي ويتعثر .. يبكي .. يتفرَّس في الملامح من حوله باحثاً عن حبٍ تبوح به النظرات .. يفتقد لحضن دافيءٍ يرتمي فيه عندما يخاف .. للمسةٍ حانية تهدهد نزقه عندما ينفجر متبرِّماً .. طفلٌ يتيم .. وحيد .. يبكي .. يبكي بحرقة .. يطاله الإعياء من طول البكاء .. يريد أن ينام .. أن ينام طويلاً .. لكنه لم ينم .. فهو يفتقد إلى همس ترنيمةٍ ، تعوَّد ألا ينام دون الإنصات إلى صداها يتردد في كيانه ..

( 2 )

.. خطاٌ جسيمٌ طالما وقعت فيه ، عندما كان يثنيني الخجل عن أن أقول لمن أحبهم إنني أحبكم . كثيراً ما تملكتني الرغبة في عناق حبيب .. في تقبيله .. في أن أبذل له مما يعتمل بين جوانحي .. غير أن شيئاً من تقاليدنا وأساليب حياتنا الجافة والمتقوقعة على الذات ، وخجلنا غير المُبرر ، كان يقف دائماً حائلاً سميكاً بيني وبين أن أفعل . فادحٌ وجسيمٌ ذاك الخطأ الذي وقعت فيه عندما لم أفعل . لأن لحظةً أتت عليّ كان فيها الأوان قد فات . كان قد رحل .. غاب .. وما عاد بوسعي بعدها قولُها له . كان عليَّ أن أفعل .. لو كان أبي اليوم هنا لفعلت .. ولكنه ليس هنا .. كل ما بقي من أبي هو صورته المعلقة على الجدار ، مثلما هي على جدران ذاكرتي .. وهذا الصندوق ..

صندوق أبي .. البوابة إلى الماضي الجميل .. أشم منه عطر عباءة أبي ، تلك التي أذكر أنه دثرني بها معه ذات ليلةٍ شتائيةٍ ماطرة .. في داخل الصندوق ، كانت أشياؤه ترقد بسلام .. المصحف ، المسبحة ، ساعة معصمه ، نظارته الطبية ، المروحة المنسوجة من سعف النخيل ، سجلات الدكان ، رسائلُ وسنداتٌ وفواتيرُ قديمة ، و ... والدزدان ..

الدزدان الجلدي الأحمر .. المزركش بأناقة فائقة .. إنه من أهم لوازم رجالات ذلك الزمن .. تساءلت :
- كم من المال دخل تلافيف هذا الدزدان خلال خمسة وسبعين عاماً هي عمر أبي وكم من المال خرج ؟ كم من أفواهٍ فاغرةٍ سد رمقها هذا الدزدان ؟ كم خرجت منه من صدقة ؟ كم من قِرى ضيفٍ ومؤونة عائل ؟ كم من ضحكة فرحٍ مشرقة رسمها هذا الدزدان على شفاه سبعة أطفالٍ وأختهم لحظة أن منح ثمن بدلاتهم الجديدة ليلة العيد ؟ أو ثمن الأقلام والألوان والدفاتر وحقائب المدرسة ؟ وكم رسمها على شفاه أمهم وعمتهم التي لم تتزوج وظلت في بيت أخيها ، عندما خرجت منه قيمة رحلتهما إلى الحج مع أبـي ؟
كم .. وكم .. وكم ؟ واليوم .. هاهو الدزدان يرقد داخل الصندوق بسلامٍ منذ عشر سنوات .. منذ أن أعطانيه أبي حين خرجنا في الصباح سوياً من البيت .. فعدت أنا يومها في المساء إلى البيت وحيداً .. ولم يعد أبي ..


( 3 )


في ذلك اليوم ، شعرت أن المقبرة ليست أبداً بالمكان الكئيب ولا المخيف .. لأنها ضمت بين جنباتها جسد أبي .. الذي سينثر فيها الحب والفرح والبهجة ، مثلما كان يفعل معنا .. لأنه سيحمل إليها معه ما كان يتلوه كل يومٍ من الآيات ، لـيبدد عنها الغربة والظلام والعزلة .. عشر سنواتٍ مرت .. منذ أن غادرنا أبي مع كل ما كان يمثله من معانٍ لكلمة " رجل " .. ليرقد هناك بسلام . وعشر سنواتٍ مرت .. منذ أن توقف الدزدان عن رسم آخر الإبتسامات المشرقة على الشفاه .. ليرقد هنا بسلام ..

.. رغم أن المشيعين كانوا معنا يومئذٍ بالمئات ، إلا أنني لا أتذكر الآن من أصوات تلك المئات ، سوى صوت نشيج ابن أخته المتوفاة ، والذي عاش في بيت أبي طفلاً يتيماً لسنوات ، وصوتٌ آخرُ لم أعرف صاحبه ، سمعته يهتف فيما كان البعض يريد إقصائي شفقةً عليَّ من مشهد الدفن :
- دعوه .. دعوه يُدرج أباه في اللحد ..

لم أعد أتذكر سوى هاتين الومضتين .. وكأنه لم ينزل إلى الأرض يومئذٍ من نور الشمس سوى بؤرتين صغيرتين .. كتلك التي تُسلَّط على ممثل المسرح في المشاهد المعتمة .. إحداهما على ابن عمتي وهو ينتحب .. والأخرى عليَّ وأبي .. فيما كنت أُرتِّب له مضجعه المؤقت . يومذاك .. تعانقنا للمرة الأخيرة .. وافترقنا .. على وعدٍ باللقاء في عالمٍ أرحب .. وأجمل .. وأنقى ..!!

* * *

الثلاثاء، 21 أبريل 2009

رحلتنا إلى الماضي .. أنا ورفاقي

في يوم الجمعة الماضي 17 - 4 - 2009 قمت مع رفاقي الذين لم أفارقهم منذ تخرجنا سوية من الجامعة برحلة سياحية ماتعة إلى مدينة طلميثة الأثرية .. كانت أشبه ما تكون برحلة إلى يوم أشرقت شمسه قبل ما يقرب من 2500 سنة من الآن .. تجولنا عبر شوارع وأزقة وطرقات مشى فيها ملوك وأباطرة وأميرات وخلق لا يعلم عددهم ولا جنسهم إلا الله وحده .. تخيلنا انفسنا في زحام كبير حيث الناس من حولنا من إغريق ورومان وبيزنطيين ذكوراً وإناثاً كباراً وصغاراً بأزيائهم وألوانهم وملامحهم كما بدت لنا عبر تماثيلهم ولوحاتهم ورسوماتهم .. زاحمناهم في أسواقهم ودكاكينهم .. اغتسلنا معهم بالمياه الساخنة في حماماتهم العامة .. تجولنا في شوارعهم .. دخلنا عليهم بيوتهم .. زرنا كبراءهم وأمراءهم وملوكهم في قصورهم وحدائقهم .. جلسنا وشاهدنا مسرحياتهم واستمعنا إلى موسيقاهم في مسارحهم وحلبات ألعابهم .. باختصار ، عشنا معهم يوماً كاملاُ من أيام ماقبل 2500 سنة .. نعم عشنا معهم فكانت هذه الصور :

( من اليمين : عبدالفتاح الذرعاني ، عبدالله الشلماني " كمرشد سياحي " ، جلال الحسنوني ، حمد بن رحومة )
اللافت والمحزن في آن واحد .. أن البعض منا كانت هذه هي الرحلة الأولى إلى طلميثة بالنسبة له .. رغم أنها تقع على مرمى حجر من بيته .. فكانت الدهشة عنواناً ارتسم على ملامح الجميع .. ليتساءل بعضنا : هل عندنا بجوار بيتنا كل هذا الجمال والعراقة والألق ونحن لا نعرف ؟

( في المسرح الأثري الصغير " الأوديون " )

في داخل المتحف فرحنا .. فرحنا بمرأى كنوز التاريخ ونفائس الزمن .. وحزنا وخجلنا كون هذه النفائس والكنوز مرصوفة في مخزن إيطالي مسقوف بالزنك تابع للميناء القديم يسمى اليوم تجاوزاً : متحف ..!!
( مع عبد القادر الحداد وخالد بوميرة في المتحف )

فوق أكبر صهريج أثري " تحت أرضي " لمياه الشرب في شمال إفريقيا بل ربما في إفريقيا كاملة كانت هذه الصورة :


( فوق الصهريج الهلنستي العملاق )

هذه هي المنارة .. " الهدو " في لهجتنا الدارجة .. حيث الأمواج تلامس برفق قدمي طلميثة الحسناء :

( منارة طلميثة البحرية " بتصرف فني بسيط في سماء الصورة " )


( في داخل صهريج المياه الأثري " المرصصات " )


( معاً عند مدخل الصهريج )


( الفيللا الرومانية " فيللا الفصول الأربعة " )

الاثنين، 13 أبريل 2009

دنيا صغيرة

بقلم / عبدالله الشلماني

لقد أعاد ذاك المقال الذي كتبه صديقي " الجميل " عبدالباسط بوبكر محمد , بعنوان ( هذا ما حدث فعلاُ ) والمنشور في موقع ( الفضاء الثقافي ) على شبكة الإنترنت , أعاد إلى ذاكرتي تلك اللحظات النادرة التي قضيتها وإياه معاً في جامعة درنة , حين كنا آنذاك ( نتهجى الحياة معاً ) كما قال هو نفسه في إهدائه على نسخةٍ من ديوانه ( في متناول القلب ) كان قد أهدانيها فور صدورها . وكما قال عبدالباسط في المقال , فإن المفارقات العجيبة التي صادفتنا في الجامعة , فتحت أعيننا في حينها على الكثير من حقائق الواقع المؤلم , الذي كنا ننظر إليه بشيءٍ من المثالية المفرطة ربما بسبب حداثة سننا آنذاك . تلك المفارقات والتناقضات العجيبة كانت أهم من كل الدروس والمحاضرات التي تعلمناها في الجامعة ..! باعتبار أن هذا النوع من الدروس القاسية لا يمكن أبداً تلقِّيه عن طريق صفحات مذكرةٍ رديئة المضمون والطباعة في آن , أو موضوع ورقةٍ بحثيةٍ مزيفةٍ يفرضه أستاذٌ ما على الطالب ليرفع به العتب عن نفسه إذا ما اتهموه بالتقصير , أو عن طريق استعراضاتٍ خطابيةٍ أثناء المحاضرة لأستاذٍ آخر .. إنه ذلك النوع من الدروس الذي تتكفل بتدريسه لنا " الدنيا " كما يقولون .. وما من شكٍ أن أية جامعة – جامعتي أنا وعبدالباسط على أقل تقدير – كانت عبارةً عن " دنيا صغيرة " .. فيها كل ما يدور ويجري في " الدنيا الكبيرة " من أحداثٍ وصخبٍ و جنون !؟..صراعٌ مستمرٌ مع الغد .. نجاحات وإخفاقات .. أحلام وصدمات .. تنافس وحسد .. أمنيات وإحباطات .. صداقات وعداوات .. حب وخيانة ..باختصار " دنيا صغيرة " ..
غير أن أهم وأبرز صفةٍ أو قاسمٍ مشتركٍ بين الدنيتين , تتقاطعان فيه وتتشابهان إلى درجة التطابق , هو " الظلم " ..! حيث تتجلى بوضوحٍ جدلية ( الحاكمية ) بأدق تفاصيلها .. الدكتاتورية المطلقة .. الحاكم والمحكوم في الدنيا الكبيرة , يقابلهما الأستاذ والطالب في الدنيا الصغيرة .. عندما تكون العلاقة بين الإثنين في كليهما قائمةً على مبدأ : ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) .. النظم السياسية الظلامية و المتخلفة في الدنيا الكبيرة .. تقابلها طواقم الإدارات والمكاتب في الدنيا الصغيرة .. حيث المواطن هو آخر اهتمامات الأولى , والطالب هو آخر اهتمامات الثانية ! .. أرأيتم ؟.. ألم أقل لكم أن الجامعة هي دنيا صغيرة ؟.. ولكن مهلاً .. يقولون أنه بالمثال يتضح المقال .. إذاً فاستمعوا لهذه القصة : بطل هذه القصة هو أنا شخصياً .. فأنا لم أرسب طيلة فترة دراستي الجامعية سوى في مادةٍ واحدة فقط , اضطررت إلى ترحيلها معي من السنة الثانية إلى السنة الثالثة . لم يكن الإهمال أو التقصير هو سبب الرسوب . بل كان مزاج أستاذ تلك المادة هو السبب .. وذلك عندما صادف حظي العاثر دخولي إلى المحاضرة في الوقت الذي كانت فيه الحالة المزاجية للدكتور سيئةً للغاية , قيل لي يومها أنها كانت كذلك بسبب مشادَّةٍ كلاميةٍ في موضوعٍ تافه , جرت بينه وبين أحد الطلبة . لأكافأ أنا بتلقِّي " الهبَّة الخلفية " لتلك القذيفة التي سددها الدكتور إلى ذلكم الطالب .. إذ شملتني عقوبته السماوية العادلة , بأن طردني من القاعة بصحبة غريمه ونهائياً بجملةٍ واحدة :
- ( ماكو أحد منكم ثنينكم يحضرلي بعد هسَّه ) ..!!
.. جريمة غريمه قد عرفتموها .. أما جريمتي أنا فكانت تأخري لثلاث دقائق ونصف بالتمام والكمال , نتيجةً لتحقيقٍ مقتضب أجراه معي حارس باب الكلية عندما لم يجد بحوزتي بطاقة التعريف ..! تماماً كما يحدث في الدنيا الكبيرة .. الخلاصة أنني ورغم رجوعي في المحاضرات التالية إلى قاعة الدرس بعد وساطات أوفدتها إليه , إلا أنني لم أُشطب بالنسبة له من قائمة " الأسماء المغضوب عليها " , والتي تقابلها في الدنيا الكبيرة قائمة " المنظمات والدول المارقة " .. وهكذا .. ومع كل تلك الإبتسامات العريضة التي أغدقها عليَّ الأستاذ طوال ذاك العام , ومع كل المجهود الرائع الذي بذلته في مذاكرة وتحصيل المادة , وجدت نفسي عند إعلان النتائج وقد رسبت و بنسبةٍ " مخجلة " .. ومن المفارقات العجيبة التي حدثتكم عنها في البداية , أنني حققت في السنة التالية نجاحاً بنسبة " الإمتياز " في نفس المادة عندما درستها مع أستاذٍ آخر . مع العلم أنني دخلت إمتحان المادة النهائي ( على المائة ) كما يُقال . أي برصيد " صفر " من درجات أعمال السنة , وذلك بحسب لوائح وقوانين الدنيا الصغيرة .. ومع العلم أيضاً أنني لا أتذكَّر أن الأستاذ الثاني الذي درسني تلك المادة قد ابتسم في سحنتي ولو لمرةٍ واحدة ..!!

* * *

الجري في منطقة الظل

قصة قصيرة
بفلم / عبدالله الشلماني
( 1 )
... هل رأيتم بهلوان " السيرك " عندما يقف على كرةٍ كبيرة ..؟ الكرة الكبيرة بارتفاع البهلوان ذاته ..؟ حين يدحرجها سيراً فوقها ..؟ .. أنا سأفعل مثله ولكن بطريقة تبدو مغايرةً إلى حدٍ ما .. الكرة التي سوف أدحرجها أكبر .. أكبر أكبر .. " الله غالب " ليس لديَّ حل آخر .. فأنا لا أقدر على رؤية الشمس .. رؤية الشمس تفرض التزامات منهكة .. إنهض من النوم ، رتِّب فراشَكَ ، أحضِر الأرغفة من "الكوشة" ، أوصِل العيال للمدرسة ، إستلم قائمة طويلة بطلبات المطبخ من الهانم ، "إصطبح" في سحنة المدير العكرة .. باختصار .. (( زمَّارة مكسورة )) .. الحل الأمثل ، الجري فوق الكرة .. بشرط أن أكون في النصف المظلم .. أعرف أن عديدين غيري يقدرون على رؤية الشمس دون عناء .. لكن أنا لا .. لذا واعتباراً من الليلة - وما أن تغيب الشمس - سأباشر الجري .
بدايةً يجب التخطيط للأمر .. حسناً .. الشمس تبزغ من الشرق لتأفل في الغرب . إذاً إتجاه الجري سيكون غرباً .. هكذا سأكون دائماً في الجانب المظلم .. جريٌ مستمرٌ يعني ظلاماً مستمراً .. لامدير يتفلسف عليَّ ولا أرغفة عليَّ جلبها .. صحيح أن ذلك سيحتم عليَّ الجري ، لكن ليست مشكلة .. إنه أخفُّ الضررين وأحلى الأمرَّيْن ..
( 2 )
.. لحظة الصفر تقترب .. بدأت بالإحماء .. أشعر بالإضطراب .. صعوبة أي عمل تكمن دائماً في اللحظات التي تسبق التنفيذ .. الشمس توشك على المغيب .. تأملتها ملياً ، فهذا آخر العهد بمرآها .. منحتها فرصة أن تسبقني بفترةٍ وراء الأفق ، لأحافظ على المسافة بيني وبينها .. احلَوْلَكَ المكان .. بدأت أعدو جهة الغرب .. أقطع خطوط الطول واحداً إثر الآخر .. أثناء الركض ، انتبهت لأمر كان غائباً عني ، وهو أنني سأعود حتماً إلى ذات النقطة التي انطلقت منها بعد يومٍ واحد .. تساءلت :
- يعني سأضطر إلى جلب الأرغفة ؟
.. أقلقني هذا الخاطر المزعج .. لكن لا .. عنما أمر على تلك النقطة سأمر ليلاً بالطبع .. نفس التوقيت الذي انطلقت فيه .. أي أنهم نيام .. وإلا فما الفائدة من الجري في منطقة الظل ..؟ كل الأمكنة التي أمر بها أهلها نيام .. هذا أحسن ما في الأمر .. عندما يستيقظون في الصباح ويطلبون الأرغفة ، سأكون حينها غائباً في منطقة الظل ، على الجانب الآخر من الكرة ..
واصلت الركض .. خطوط الطول تتلاحق تَتْرَى كخطوط الطلاء البيضاء على طرق الإسفلت وأنت تركب السيارة .. مررت على بواباتٍ حدودية لدولٍ كثيرة .. حراس هذه الحدود لا ينامون ، خصوصاً في الدول العربية ، وأنا ليس لدي جواز سفر .. اضطررت إلى الإنحراف قليلاً لتفادي تلك البوابات . انتهت اليابسة .. وصلت إلى شاطيء المحيط .. ماذا أفعل الآن .. ؟ مشكلة .. بالصدفةِ مرَّ قاربٌ على متنه مهاجرون غير شرعيين وافقوا على اصطحابي .. أمواج المحيط عاتية .. متلاطمة .. عواصف .. برد .. خوف .. وصلنا إلى الشاطيء الآخر .. استأنفت الركض غرباً فيما اختبأ المهاجرون في أحد الأقبية هناك .. مغفلون .. لماذا لايحافظون على البقاء في النصف المظلم مثلي بدل الإختباء هناك ..؟ سيتم اعتقالهم في النهاية ..
( 3 )
.. ظللت أجري .. أجري .. اجتزت مدناً ، وقرىً ، وأريافاً ، وصحارى ، وجبالاً ، وسهولاً .. ردَّدت بيني وبين نفسي :
- " سياحة بالبلاش " ..
لكنها سياحة في الظلام .. لم أكن أرى بشكل جيد .. مؤكد أن المناظر في النهار أحلى بكثير .. البشر القادرون على رؤية الشمس ، دائماً يأتون هنا ليستمتعوا بالسياحة في النهار .. رغم أنها ليست " بالبلاش " .. ظللت أركض .. أركض .. مررت ببيتنا بعد أن حققت دورةً كاملة . كانت الساعة حينها الثانية والنصف ليلاً.
فكرت قليلاً :
- تباً .. عندما انطلقت البارحة من أمام البيت كانت الساعة منتصف الليل .. هذا يعني أنني أتباطأ .. ستدركني الشمس لامحالة .. ستمسك بي من الوراء .. " ستَقُدُّ قميصي من دُبُر " ..
أسرعت أكثر .. أركض .. أركض .. شعرت بالجوع .. انعطفت صوب خط الإستواء .. هناك " الخير واجد " .. مياهٌ عذبة وفواكه وخيرات ، أقطف ما أشاء وآكل وأنا أجري .. مررت ببيتنا للمرة الثانية ولكن الساعة كانت هذه المرة الرابعة فجراً ..
- " حَيْه بلا " .. ستدركني الشمس . وقد تدركني وأنا في بلاد الغربة وبدون جواز سفر .. سيعتقلونني لاعتقادهم أنني إما إرهابي وإما مهاجر غير شرعي .. معقولة .. ؟ " هظا عقابها " .. ؟ معسكر غوانتانامو .. ؟

بلغ مني التعب والإعياء كل مبلغ .. فأنا لم أنم منذ مدة .. هذه أيضاً لم أحسب حسابها .. أخذت سرعتي تتباطأ .. تتباطأ .. يتسلل إليَّ اليأس وأنا أتخيل وجه المدير غداً وهو (( يتصفتر )) قائلاً :
- " وين غايب لك ثلاث أيام ياسي الـ .... ؟ " ..

.. ستكون فرصته التي يتمناها ذلك " العرص " .. سرعتي تتباطأ .. تتباطأ .. اليأس يتعاظم في داخلي .. أحس بمرارة الخيبة في حلقي .. أشعر بالرغبة في البكاء .. بالرغبة في النوم .. وفي التقيؤ .. فكرت في أن أتوقف بمجرد محاذاة بيتنا وليكن بعدها ما يكون .. لايهم ربما سأنتحر .. اليأس يحاصرني .. وسرعتي تتباطأ .. ركبتاي خائرتان ترتجفان .. وأنا أتباطأ .. أتباطأ .. أ ..... تـ ... بـ ..... ا ....... ط ................. أ ...............
( 4 )
.. من بعيد ، رأيت خيالاً في الظلام ينتظرني ، لم أتبين شكله فضلاً عن وجهه . جثوت حين وصلته وأنا ألهث منهكاً .. قال قبل أن أصافحه :
- ليس هكذا يا غبي ..
غضبت .. أردت أن أقول له أن ..... ولكنه قاطعني :
- جميعنا جرَّب ما أنت فيه الآن .. لن تستمر طويلاً بهذه الطريقة .. ستدركك الشمس .. هيا بنا إلى بلاد الجليد ..
سألته :

- الجليد ؟ أين ؟ لماذا ؟ كيف ؟ ولكن مهلاً .. أنا .. أنا .. أعني أنت .. أنت ..
قاطعني ثانيةً :
- هيا إلى بلاد الجليد .. إلى أحد القطبين ياغبي .. ألا تعرف أن الليل هناك يطول لستة أشهر ؟ هناك يمكنك أن تنام وترتاح وتأكل وتشرب وتقرأ وتكتب وتغني وكل شيء .. نحن نركض فقط لمرتين كل عامٍ .. ركضتَيْ الشتاء والصيف .. في الشتاء نركض للقطب الشمالي حيث الليل ستة أشهرٍ كاملة .. وفي الصيف للقطب الجنوبي لذات السبب .. ولا نجري للأبد مثلك ياغبي ..

اقتنعت بكلامه رغم نعته لي بالغبي .. اتجهنا شمالاً .. وصلنا .. كان الليل هناك سرمدياً .. ليس ثمة أية التزامات مُنهِكة تفرضها رؤية الشمس هناك .. وجدت هناك الكثيرين .. كثيرون جداً .. أغلبهم من العرب والمسلمين .. يعيشون هناك في بلاد الجليد .. يأكلون ويشربون ويتكلمون ويشتمون ويسكرون .. يسيرون زُرافات وفُرادى على الأرصفة المتجمدة .. لمحت في وسط الزحام على أرصفة الشوارع المتجمدة وجهاً لم يكن غريباً عني .. حاولت أن أتذكره لكي أنادي عليه .. لكنه اختفى فجأةً وذاب في تلك الجموع .. لا أدري .. ربما كنت مخطئاً .. أعتقد أنه .. أنه .. " الصادق النيهوم " ..!!؟؟
* * *

مذكرات راقد ريح

بقلم / عبدالله الشلماني

هل ألعن الظلام ؟.. أم أوقد شمعة ؟!.

من الأشياء التي استمتع بها في حياتي – وهي قليلة – مشاهدة التلفزيون .. فمشاهدته تأخذني بعيداً وبتلقائية إلى عوالم مختلفة ومتنوعة أهم ما فيها وأجمل ما فيها بالرغم من سماجتها أحياناً أنها لا تشبه عالمي أنا . أجل .. فعالمي أنا مليء بالمنغصات التي من بينها أنني محروم أغلب الأحيان من ممارسة متعتي الصغيرة ( مشاهدة التلفزيون ) بسبب انقطاع التيار الكهربائي المتكرر عن بيتنا .. علماً أننا نسدد الفواتير أولاً بأول .. لكن هذا هو الواقع .. فحق شركة الكهرباء أن تقطع التيار عنا إذا تأخرنا عن السداد . بل من حقها أن تحجز على المرتب أيضاً .. أما حقنا نحن إن سددنا ما علينا فهو الإنقطاع المتكرر ربما لأيام متواصلة .
لازلت حتى اليوم أتذكر تلك الليلة الرهيبة .. كانت ليلة رهيبة وطويلة جداً .. أطول من ليلة سقوط غرناطة كما صورها مسلسل المرحومة ( أمينة رزق ) .. كنت في اليوم الذي سبق تلك الليلة أخطط لقضاء ليلة رائعة . حيث سأقوم فور عودتي من الدوام وتناولي لوجبة ( الدشيشة ) بأخذ قسط من الراحة أصحو منه قبيل صلاة العصر .. لأخذ دش ساخن ينشطني ولأتوضأ وأصلي .. ثم أشاهد برنامجاً حوارياً مهماً بالنسبة لي يتناول موضوعاً يتعلق باختصاصي في العمل .. ولن ينتهي ذلك البرنامج إلا وقد رجعت إلينا أمي من عرس ( بنت عم راجل خالتي ) ومعها قصعة رز كبيرة مغطاة بالعصبان واللحم وكل ما لذ وطاب بناء على وعد لي بذلك من خالتي شخصياً .. وما أجمل الليلة التي يكون العشاء فيها قصعة كتلك القصعة .. لا سيما والحال برد وشتاء وصقيع وأمطار كما هي تلك الليلة .
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن .. فإليكم ماحدث .. رجعت من العمل .. تناولت وجبة الدشيشة .. خلدت إلى النوم .. حتى الآن تسير الخطة على مايرام . غير أن خطتي أخذت منحىً آخر بمجرد استيقاظي .. منحىً سيرسم لكم بيانياً وبشكل محكم أحداث تلك الليلة التي ( إن شاالله ربي ما يورّيها لصاحب ) .. صحوت لأجد التيار الكهربائي وقد انقطع منذ أكثر من ساعتين .. وبناء على ذلك وبعد وقوفي تحت الدش بلحظات قليلة انقطع الماء الساخن فجأة ودون سابق إنذار لتصعقني قطرات الماء المثلّج المنهمرة من الدش صعقةً كدت معها أن أصرخ لولا الحياء .. وبعد أن تقافزت لوقت وجيز وبعينين مغمضتين تحت وابل الماء البارد كالذبابة أصابها ( الفليت ) بحثاً عن مقبض الحنفية ، استطعت أخيراً إيقاف الماء .. وتنشفت سريعاً لأخرج وصوت عطاسي واصطكاك أسناني يصل إلى ( سابع جار ) .. وأؤكد لكم أن عدد العطسات أثناء الصلاة كانت أضعاف عدد التكبيرات فيها ..
فات وقت البرنامج الحواري .. وأنا وحيد ليس ثمة من أتكلم معه .. بدأ الظلام يتسلل إلى أركان وزوايا البيت .. المدفأة الكهربائية معطلة بطبيعة الحال تبعاً لتعطل التيار الكهربائي .. ولا شيء في المطبخ يمكن مضغه ولا حتى كسرة خبز .. الزكام يكاد يفجرني إلى أشلاء كلما عطست مرتعداً من البرد .. الوجوم هو العنوان العريض الذي يختصر توصيف حالتي آنذاك .. حرارتي ترتفع .. فعلاً كان الوضع مأساوياً لولا بصيص الأمل في قصعة الرز بالعصبان .. فهي الحلم الذي كانت تهون معه تلك الحالة المزرية .. في ذلك اليوم فقط أدركت أن الحياة لا يمكن احتمالها لولا الأمل والحلم .. غاب قرص الشمس وراء الأفق مخلّفاً لي شجناً عميقاً جرّاء غيابه ، ذلك أنني لست متأكداً مئة بالمئة أنني سأراه مرةً أخرى خاصة أن قدميَّ عجزتا عن الوقوف لتوديعه من النافذة فوق فراشي بسبب شدة حرارة جسمي المحموم .. قد أموت الليلة من الحمى ولن أره ثانية ..
اللعنة .. هل هذا هو ماخططت له بالأمس .. بالطبع لا .. كنت أسمع جارتنا العجوز بين الفينة والأخرى وهي تسب وتلعن وتقول : ( يا الله .. يا جماعة الضي الله يعطيكم دعوة ) .. أما أنا فكنت أدعو الله مخلصاً أن يمد في عمري حتى أرى أمي مقبلة عليّ بقصعة الرز .. أن أراها فقط ثم لأمُت .. تأخرت أمي .. وطال الليل البارد المظلم .. جوع .. ألم .. عتمة .. وحدة .. ضجر .. شعرت لشدة الحمى بانعدام رغبتي وفقدان شهيتي في القصعة المنتظرة .. انكمشت على نفسي في الفراش لائذاً بالبطانية من البرد والظلام .. وظل دعاء العجوز وسبابها ولعناتها على شركة الكهرباء والعاملين فيها يصل لمسامعي مخترقاً البطانية .. دفء البطانية أضاف على الوضع الكارثي كارثة أخرى وكأن لم يكن ينقصني سواها .. فحمام المياه الباردة عند العصر ونوبة الزكام الشرسه والصقيع الفتاك ، كل ذلك حرك في أسفل بطني شعوراً بضرورة إفراغ حمولة مزعجة من الماء النتن مما يستدعي لزوم النهوض للمرحاض وأنا لا أقوى على ذلك .. فالحمى تصفّد رجليّ والشمعة التي تركتها أمي قبل خروجها موجودة في الحجرة المجاورة و و و .. ( وعطبك عليّ معيشة ) .. كان سباب العجوز لايزال محتدماً .. وفي هذه الأثناء ذكرني سبابها بالمثل القائل : ( بدلاً من أن تلعن الظلام أوقد شمعة ) .. فقررت المسير إلى الشمعة متحدياً الألم والظلام والصقيع والجوع وكل شيء .. فجأة وأثناء السير يحتضنني الجدار بشوق جارف ليقبلني بحرارة بين عينيّ تماماً حتى قدحت أمامي الدنيا بنور ساطع جرّاء الإصطدام ووقعت أرضاً .. ومن حين تلك الليلة الرهيبة وحتى الآن وأنا لازلت أتساءل .. ترى ما هو الأجدى .. أن ألعن الظلام ؟.. أم أن أوقد شمعة ؟!!..

مذكرات راقد ريح

بقلم /عبدالله الشلماني
( المعرفة حق طبيعي لكن ليس لكل إنسان )

الحظ العاثر كعادته دائماً ألقى بي وسط مدينة بنغازي قادماً إليها من مدينتي مدينة المرج .. ليس للتنـزه وتمضية الوقت ، بل طلبا وبحثاًً عن أمر غير متوفر بالمرج على الرغم من أهميته المفرطة بالنسبة لي على الأقل .. ( طبيب عظام ) .. أتيت مبكراً أكثر مما يجب ، خوفاً من ضياع دوري في الطابور والناتج عن تأخري بسبب انفجار إطار الميكروباص الذي يقلنا كما حدث معي في المرة السابقة . لكن الحمدلله .. هذه المرة حرصت على المجيء في سيارة أجرة مرسيدس ( فيتو ) تسابق الريح .. إلى الدرجة التي كدنا معها أن نهلك جميعاً عندما عبر الطريق عند منطقة الكويفية حمار مستعجل هو الآخر أمام سائقنا الذي لا يقل استعجالاً عنا ولا عن الحمار . فهو يسابق الريح ليؤمن القسط الشهري من ثمن ( الفيتو ) للمصرف الريفي . وأنا أسابق الريح للوصول إلى طبيب العظام في الوقت المناسب .. ويبدو أن الحمار أيضاً يسابق الريح لأمر لا يعلمه إلا الله .. فللحمير أيضاً همومها وقضاياها .
المهم أنني وصلت مبكراً ووجدت الوقت أمامي ممتداً لساعات طوال .. اللعنة .. أثقل الأشياء على قلبي هو الإنتظار خصوصاً في عيادات الأطباء .. حيث الأحاديث بين المنتظرين تتمحور على الألم والمرض و " عطابة " الدكتور فلان و " نزاكة " الدكتور علان والإحتجاج على الممرضة التي تتحايل وتزور " لتزريق " معارفها في غير أدوارهم .. ماذا أفعل الآن ؟ حسناً سأذهب إلى دار الكتب الوطنية القريبة من المكان عسى أن أجد كتاباً يؤنس وحشتي ويرحم غربتي ويختصر الزمن بيني وبين طبيب العظام .. في الطريق كنت أفكر كيف أن هذه المكتبات وما على غرارها من المؤسسات تعتبر من النقاط والجوانب القلائل المضيئة في واقعنا المزري .. وكيف أنه من المفترض - لو كان هنالك من يحمل هم الوطن وأهله - أن تنتشر مثل هذه المرافق التي ترقى بمستوى الشباب بمشاريعها ومعارضها وأمسياتها الأدبية ومحاضراتها الفكرية .. آه يا دار الكتب الوطنية .. لو أن لي من يخيرني بين الأماكن للسكنى ما اخترت سواك مكاناً .. وفجأة أفقت من تخيلاتي وتفكيري على صوت شاب أنيق ومهذب يقف أعلى سلم الطابق الثاني للمكتبة معترضاً طريقي ليقول :
- عفواً يا أستاذ .. هل أخذت بطاقة اشتراك بالمكتبة ؟!
لاحظت أنه يشبك واحدةً في ياقة سترته المكوية بعناية .. أجبته :
- بطاقة ؟ لا لم أفعل .. ما الأمر ؟ وأين يمكنني أن أجد واحدة ؟
- عند المدخل يا أستاذ .. هناك سيعطونك واحدة .. لو سمحت ..
وابتسم لي ابتسامة دبلوماسية مشيراً بسبابته إلى الطابق الأرضي .. اتجهت محرجاً إلى حيث تشير سبابة الشاب الأنيق .. وهناك وجدت أحدهم – أقصد إحداهن - تجلس خلف درج للإستقبال فقصصت عليها خبري باقتضاب .. نسخت كامل جسدي النحيل من أسفله إلى أعلاه بنظرة ماسحة ( سكانر ) .. ثم سألتني :
- هل أنت طالب ؟
- لا ..!!
- هل أنت باحث ؟
- لا ..!!
- هل تنتمي لأية مؤسسة علمية أو مركز للبحوث أو هيئة للدراسات ؟
- لا ..!! أنا فقط مواطن ليبـي يريد أن يقرأ في كتاب يتشارك امتلاك الحق في قراءته مع بقية الستة ملايين ليبـي .. أنا متخرج من الجامعة منذ زمن ولست طالباً .. ولا أنا باحث ولا شيء ..
أثار فيها كلامي شيئاً من الحنق .. أجابت :
- آسفة .. يتوجب عليك لكي تدخل وتقرأ أن تكون طالباً أو باحثاً أو على الأقل في زيارة إلى طالب أو باحث ..
في الأثناء تداعى إلى ذاكرتي مشهد الإنتظار في العيادة .. وفي مقارنة سريعة في مخيلتي تبين لي بوضوح أن الإنتظار في العيادة أرحم .. فهي لاتحتاج إلى بطاقة اشتراك .. مثلها في ذلك مثل جميع الأماكن التي يرتادها ( الغلابة ) من أمثالي .. طابور العيادة .. طابور الفرن .. طابور الوقود .. طابور المصرف .. طابور بوابة المرور ..
خرجت محرجاً ومحبطاً قاصداً العيادة .. و فور خروجي من باب المكتبة رأيت أمامي عبارة مكتوبة على لافتة عملاقة أعلى المبنى وددت لو أنني أوفق إلى التعرف على من أصدر الأوامر بشأن بطاقة الإشتراك لكي ألتقط له صورة فوتوغرافية تجمعني به في ظلها .. لقد كتبوا على تلك اللافتة ( المعرفة حق طبيعي لكل إنسان ) ..!!؟؟