الاثنين، 20 يونيو 2011

ومضات من تاريخ دولة الإستقلال



بقلم / عبدالله الشلماني ..
(الحلقة الأولى)

الكثيرون من جيل شبابنا الصاعد في ليبيا يجهلون بشكل يكاد يكون تاماً تاريخ دولة الإستقلال الليبية ، وذلك نتيجة للتجهيل المتعمد من قبل النظام الجائر . الذي اختزل تاريخ ليبيا في انقلاب 1969 وكأن ما قبله من الزمن لم يعرف شيئاً اسمه ليبيا . ونحن هنا لن نسرد تاريخ ليبيا الحبيبة منذ فجر ولادتها ، لأن في الكتب والمراجع ومناهج المدارس والجامعات ما يغني المهتم بهذه الحقب . لكننا سنركز على ولادة دولة ليبيا الحديثة الذي أعلن استقلالها في 24 ديسمبر 1951 ، بعد مخاض طويل من الجهاد العسكري والسياسي في أرض الوطن وفي المنافي .
كانت ليبيا تحت حكم الخلافة العثمانية في عهده الثاني والأخير الذي فصلت بينه وبين العهد العثماني الأول دولة القرمانليين شبه المستقلة والتابعة إسمياً فقط للباب العالي بالآستانة . وذلك عندما احتلت قوات إيطاليا شواطيء ليبيا سنة 1911 كما احتلت دواخلها بعد ذلك . ومع هذا الإحتلال بدأ الليبيون في عهد من الجهاد المشرف ، حيث سطروا بدمائهم ملاحم من البطولات والإقدام المنقطع النظير شهد لهم بها الأعداء قبل الأصدقاء . وبلغ السيل الزبى واشتدت قبضة الإيطاليين على جنود وقادة الجهاد الليبيين عندما انتهت حركة الجهاد المنظم بأسر وإعدام الشيخ عمر المختار والذي كان يقود حركة الجهاد وجبهات القتال المعروفة (بالأدوار) كوكيل ميداني عن السيد محمد إدريس المهدي السنوسي القائد الروحي لحركة الجهاد في برقة والذي كان يدير دفة القتال في الإقليم الشرقي من ليبيا والمعروف بـ ( برقة ) من منفاه الإجباري في مصر . حيث أعدم المختار في سبتمبر 1931 . كما توقف القتال المنظم في إقليم غرب ليبيا (طرابلس) في وقت مبكر مع احتلال مدن الدواخل . ولم يتبق في ليبيا سوى جيوب قتالية متفرقة هنا وهناك . كما هاجر معظم المجاهدين من الجنود والقادة إلى المنافي في مصر وتونس وفلسطين وسوريا وتركيا وغيرها لمواصلة الجهاد الدبلوماسي والسياسي .
وهنا تماماً وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939 التي تحالفت فيها إيطاليا مع ألمانيا ضد الحلفاء والذين كانت من ضمنهم بريطانيا ، يستغل السيد إدريس السنوسي باني دولة ليبيا الحديثة بحنكته ودهائه السياسي النادر هذه التحالفات والظروف الدولية البالغة التعقيد لكي يعمل على تحرير ليبيا من المستعمر الإيطالي البغيض . حيث كانت بريطانيا تحتل مصر وقد هاجمها الألمان بالتعاون مع الإيطاليين ليستولوا منها على الأراضي المصرية ولتأمين منفذ قناة السويس الإستراتيجي والسيطرة عليه . فكان من الطبيعي أن تقاوم بريطانيا هذا الهجوم بهجمة عكسية ضد الإيطاليين والألمان في ليبيا ، وطلبت بريطانيا المساعدة من السيد إدريس السنوسي مع رفاقه الليبيين باعتبارهم أدرى بالطرق والمسالك ونقاط الضعف والقوة في الأراضي الليبية . فاشترط السيد إدريس – ملك ليبيا لاحقاً – على الإنجليز الحصول على تعهد رسمي بالإستقلال لقاء مساعدتهم في المهمة التي طلبوها . فحصل على تعهد رسمي معلن بهذا على لسان وزير خارجية بريطانيا (أنطوني إيدن) أمام مجلس العموم البريطاني ، والذي استغله إدريس السنوسي بعد ذلك في الضغط على بريطانيا والأسرة الدولية لنيل إستقلال ليبيا . وبالفعل يشكل السنوسي جيش ليبي من المجاهدين الليبيين المهاجرين إلى مصر عرف لاحقاً (بالجيش السنوسي ) أو (جيش التحرير) ، والذي كان النواة الأولى للجيش الليبي الحديث والحالي وذلك سنة 1941 بالقاهرة . وهو الجيش الذي كان له الفضل والنصيب الأكبر من أسباب اندحار ألمانيا وإيطاليا وتحرير ليبيا منهما وذلك بشهادة قادة وجنرالات الجيش البريطاني قبل غيرهم . وسنعرف في الحلقات القادمة كيف سارت الأحداث التاريخية حتى نالت ليبيا استقلالها في نهاية المطاف ..

الأربعاء، 15 يونيو 2011

مذكرات راقد ريح (سابق)

(تأملات في نهاية بوشفشوفة) بقلم / عبدالله الشلماني

إنها الرابعة والنصف فجراً .. ضوء الصباح يتسلل عبر شقوق النافذة الموصدة .. لكن الحجرة لا تزال معتمة .. صمت مطبق داخل البيت ماعدا صوت ساعة الحائط :
_ " طق ، طق ، طق ، طق .. " .
بدأت أتساءل فيما كنت مستلقياً في الفراش وقد جافاني النوم : ترى في مصلحة من تسير عقارب هذه الساعة ؟ هل في صالح القذافي المحاصر قي حفرةٍ ما من باب العزيزية ؟ .. أم في صالح حلف "الناتو" الذي يرمي مع كل ثانية تخطوها عقارب هذه الساعة صاروخاً بقيمة مليوني دولار ليضيفها إلى فاتورة الحساب التي سيسددها الليبيون ؟ .. أم أنها لصالح الليبيين الذين تتضاءل المسافات وتذوب الحساسيات بينهم كلما طال أمد المعركة ؟ .. وبعد مقارنة سريعة في مخيلتي وصلت إلى نتيجة بسيطة مفادها الآتي : بما أن معمر القذافي خارج المقارنة أصلاً لأن حركة سير عقارب الساعة هي في عكس مصلحته بكل تأكيد .. إذاً تبقى المقارنة محصورة بين "الناتو" والليبيين .. تنهدت هامساً بزهو :
_ "ياعيني عليك يابو الشلماني .. نشهد بالله انك محلل سياسي "دلعبي" .. صقع علي (عزمي بشارة) وصقع علي (السنوسي بسيكري) .. " .
في هذه الأثناء - ولست أدري لماذا - ذهب بي الخيال إلى استوديوهات (الجزيرة) و(العربية) .. وتخيلت نفسي جالساً بجوار (جمال ريان) أو (منتهى الرمحي) .. حيث أجيب بتحليل عسكري وسياسي معمق ومسهب عن أسئلتهما .. لكن "طقطقة" عقارب الساعة الحائطية أعادتني إلى الواقع من جديد .. وهنا تذكرت أنني لم أكمل المقارنة بعد بين مصلحة "الناتو" ومصلحة الليبيين في استمرار طقطقة الساعة .. رحت أفكر ملياً من جديد مردداً بيني وبين نفسي :
_ حسناً .. من مصلحة "الناتو" بكل بساطة أن ترتفع تكلفة فاتورة المعركة .. فكلما ازدادت طقطقات الساعة كلما ازداد "الناتو" في مكاسبه المادية والسياسية والعسكرية .. والحديث هنا طويل ومرير وذو شجون لو أردت الإسترسال .. "ماعلينا" .. أما الليبيون فمن مصلحتهم أيضاً – وكما يخفى على الكثيرين – أن تطول مدة حربهم مع هذا "المنجوه" .. حيث ينهار هرم سلطته من القاعدة باتجاه القمة التي يمثلها هو شخصياً .. فبسقوطه سيزول آخر أثر لنظامه الأسود بعد زوال كل الرموز والقيادات والمؤسسات والنظريات والمليشيات و و و الخ .. وبالتالي سينعم الليبيون باستلام ليبيا نظيفة ورائعة كالتي استلمها هو عند انقلابه المشؤوم في 1969 .. وهذا بالطبع يحتاج إلى وقت أطول .. وذلك بعكس تونس ومصر اللتين سقط فيهما سريعاً رأس الهرم قبل زوال قاعدته العريضة من الرموز والقيادات وبالتالي لا يزال المصريون والتونسيون يكدحون وينصبون في سبيل إزالتها وكنسها ..
قررت النهوض من الفراش واتجهت حافياً إلى حيث الساعة الحائطية .. وقفت أمامها متأملاً فيما كانت يداي معقودتان خلف ظهري .. لم أستطع إخفاء الشعور بالإعجاب والخيلاء بتحليلاتي العسكرية و "الجيوسياسية" .. قلت في نفسي مجدداً :
_ كون أنني محلل سياسي "دلعبي" هذي ما تبيش اثنين يحكوا فيها .. لكن للأسف القنوات الفضائية ما يندروش عليَّ .
أمعنت النظر أكثر وأكثر في عقارب الساعة .. تساءلت :
_ ترى ماذا يفعل مجنون باب العزيزية الآن ؟ "زعمة يمشط في شفشوفته ؟ .. لا لا .. لو كان يمشط فيها راها مش هكي .. وبعدين ما ناقص عليه غير يمشط ! " ..
أتراه نائم ؟ .. والله ما أعتقد .. "النوم وين والقذافي وين" .. سبحان الله .. كم كان القذافي يتلذذ بطقطقات عقارب الساعة على مدى 42 سنة خلت .. لكن ليس منذ 17 فبراير فصاعداً .. وهنا تحديداً خطر ببالي تساؤل خطير تعجز عنه تحليلاتي لو أن (الجزيرة) أو (العربية) سألتني إياه .. التساؤل هو :
لو أن عقارب الساعة رجعت إلى الخلف حتى صباح 17 فبرابر ، وفُتحت في نفس الوقت أستار الغيوب أمام بصر هذا "المنجوه" ليرى ما سيحل به على أيدي الليبيين بعد هذا التاريخ ، ترى كم كان سيدفع من الأموال والتنازلات لقاء تفادي هذه النهاية الكارثية ؟! .. فكرت طويلاً .. لم أجد جواباً .. قلت في نفسي مهزوماً ومعترفاً بالعجز :
_ "هذي ما يجاوب عليها إلا (عزمي بشارة) أو (السنوسي بسيكري) " !!

الأحد، 5 يونيو 2011

مذكرات راقد ريح .. بقلم / عبدالله الشلماني



ملحوظة / قبل 17 فبراير 2011 نُشرت 8 حلقات من هذه السلسلة من المقالات الأدبية تحت اسم (مذكرات راقد ريح) .. وبعد 17 فبراير 2011 ها هي الحلقة الأولى من الجزء الثاني من نفس السلسلة لكن تحت عنوان : مذكرات راقد ريح (سابق) ..


الحلقة الأولى : حالة التصاق

دخلت إلى "المربوعة" متلهفاً لسماع الأخبار .. ولجت بسرعة عائداً من ساحة (الشهيد علي حسن الجابر) في مدينة المرج بعد الإنتهاء من وقفتنا الإحتجاجية اليومية على مجازر الطاغية وللمطالبة برحيله .. بعض شباب أسرتي سبقوني بالعودة من الساحة وجلسوا يشاهدون أخبار ( الجزيرة ) .. ألقيت التحية :
- السلام عليكم ..
- سلام ..
- مازال قاعد ؟
- ...............!
فهمت من صمتهم البليغ ومن ملامح وجوههم المتجهمة أنه (مازال قاعد) .. شهران يمران الآن وهو لا يزال "ساكن" ويتشبث بقوائم الكرسي .. رغم أننا نسحبه من رجليه عن الكرسي منذ شهرين .. اللعنة .. إنه ملتصق تماماً .. تنهدت مردداً بيني وبين نفسي :
- " الله يعطيه دعوة " ..
هذا (المخلوق) العجيب يستعصي على الفهم بالنسبة لي .. فهو إما يتلقى التعليمات لقتل الشعب الليبي الأعزل من خارج مجرة درب التبانة ، وذلك عن طريق الأطباق الطائرة كما في المسلسل الكرتوني (غريندايزر) متقمصاً دور (زوريل) ، وإما أنه ينتمي لعالم الجن والشياطين ويأتمر بأمرهم .. معقولة !؟ .. لا أعتقد أن ثمة إنساناً مهما كانت درجة غبائه يعجز عن فهم هذه المعادلة البسيطة .. شعب فوق أرضه يقول بأكمله لمن يحكمه وبصوت واحد : (إرحل) .. الإستجابة الطبيعية حتماً ودون عناء ولا تفكير هي الرحيل .. لا جدوى من التلكؤ .. و كان ينبغي بدل أن يكون هذا الرحيل مأساوياً وفضائحياً كما يحدث معه الآن ، أن يخرج بشيء من حفظ ماء (القفا) !؟ لأن وجهه لم يعد به ماء ولا حتى دم ..
المهم أنني جلست في حجرتي متأملاً في ملامح المشهد .. دارت في خلدي أشياء كثيرة .. وشردت بي الأفكار بعيداً .. من "المربوعة" كان يصل إليَّ صوت التلفاز خافتاً بعض الشيء .. لقد كان فاصلاً تبثه بعض القنوات الإخبارية بتهكم واضح لمقتطفاتٍ من خطابه المجنون .. أستطيع الآن تمييز صوته المتهدج وهو يزعق :
- " سأزحف آني والملايين لتحرير ليبيا بيت بيت .. دار دار .. زنقة زنقة .. شبر شبر .. فرد فرد " ..
وجدت نفسي أردد تلقائياً ولا إرادياً :
- "الله يعطيه دعوة .. دعوة زي الدعوة اللي مزقت كم كبوطه " ..
بدأت أفكر فيما يجب عمله .. فالواجبات الآن أكثر بكثير من الأوقات المتاحة لإنجازها .. هل أذهب لجبهة القتال ؟ .. لكنني لا أمتلك بندقية للأسف الشديد .. فحظي المنحوس كدأبه دائماً لم يتح لي أن أكون أحد مقتحمي مخازن الأسلحة لأحظى بواحدة ، ولا أنا أمتلك الثلاثة آلاف دينار ثمناً لها في ساحة بيع الخضار بالمرج حيث تباع بجوار الجرجير والفجل بدل التبرع بها للثوار !! .. ومجرد ذهابي إلى هناك بدون بندقية هو محض عبث .. يعني أنني سوف ألتهم ما يجلب للثوار من المؤن بدون فائدة .. عمالة زائدة .. وبما أنني بدون بندقية فمكاني بلا ريب هو الخطوط الخلفية حيث الطناجر وقدور الطبخ .. والإحتمال الأرجح بالتالي هو أنني سوف أموت بلا طائل إما بقذيفة قذافية – وما أجمل الجناس في "القذيفة القذافية" – وذلك عند إحدى خيانات الطابور الخامس ، وإما بقصف بطريق "الخطأ" من قبل طائرات (الناتو) .. يعني بالليبي الفصيح "في غوط باطل" .. ما العمل إذاً ؟ .. توصلت إلى قناعة تامة بضرورة البحث عن دور في الجبهة المدنية .. في الحراك السلمي للثورة .. وهذا الدور أستطيع القيام به بسهولة وبنجاح على ما أعتقد .. كيف لا ؟ التضحيات في العمل السلمي مهما عظمت فلن تبلغ عظمة التضحية بالروح .. لذا سأواصل التظاهر في ميدان الشهيد علي الجابر بالمرج .. وسأشارك في المظاهرات الحاشدة أمام محكمة بنغازي .. سأدعو عليه خلف الإمام في القنوت لكل صلاة .. سأذرف دموعاً وأنا أشيع جثمان كل شهيد ، أذيب فيها ألم فراقه في فرحة زفافه إلى الفردوس الأعلى .. هذا أقل ما يمكنني عمله .. لن أقعد عن المطالبة بحقوقي بعد اليوم .. نعم .. الطريق لإنهاء حالة الإلتصاق العجيبة هذه مضمخة بدماء آلاف الشهداء .. إنها طويلة .. لكننا سنسلكها إلى آخرها .. إلى باب العزيزية ..
يتبادر إلى مسامعي من "المربوعة" صوت التلفاز من جديد .. إنه يزعق هذه المرة :
- " أنا هنا ، أنا هنا ، أنا هنا . !! ؟؟ " ..
زعقت بدوري حانقاً ومجيباً :
- " جايينك ، جايينك ، جايينك .. " ..

الأربعاء، 16 فبراير 2011

وقفات أمام تاريخنا 1

مدخل ضريح الشهيد عيسى الوكواك بمدينة المرج


(عيسى الوكواك ..أمانة العرض)*

بقلم / عبدالله الشلماني ..
صادف أنني كنت صباح الأمس ماراً بسيارتي بالقرب من إحدى المدارس الثانوية للبنات بمدينتي ( مدينة المرج ) ..وإذا بي – وفي الأثناء – أشاهد مجموعة من الشباب وهم مجتمعون واقفين على ناصية الشارع قبالة المدرسة ، مترصدين للفتيات الخارجات من المدرسة بغرض معاكستهن واللحاق بهن ومضايقتهن بالكلمات النابية والخادشة للحياء والبعيدة عن مروءة الرجال الشرفاء .. فأثّر ذلك المشهد المحزن في نفسي تأثيراً بالغاً .. وشعرت بضيق كبير لا يمكنني وصفه بالكلمات مهما كانت بليغة .. إنه شيء مخجل .. أن يكون شباب ليبيا هكذا .. مائعون .. لا هدف لهم ولا رسالة .. لم تكن هذه الأخلاق الذميمة من شأن الليبيين ولا من طبائعهم في يوم من الأيام ..
في اليوم ذاته ، وقبل أن أنتهي من ذات المشوار بالسيارة ، مررت بعد هذا المشهد المؤلم بضريح المجاهد الليبي البطل (عيسى الوكواك) .. ذلك المرجاوي المغوار .. ذلك الشاب النادر المثال .. لست أدري ما السبب الذي دفع بي لأن أقف بسيارتي قبالة باب الضريح .. تأملت الضريح ملياً .. تساءلت : أين شبابنا الذين رأيتهم قبل قليل من شاب مثلك يا عيسى الوكواك ؟ .. يا له من فرق شاسع .. لقطات وومضات من سيرة ذاك الفتى الرائع أخذت تتداعى إلى ذاكرتي .. أجل .. إنه عيسى الوكواك .. الذي قبض عليه الإيطاليون الغزاة عام 1915 م .. عندما كان فتىً يافعاً يتسوق مع ابن عم له في سوق الظلام بمدينة بنغازي .. فخيّرهما الإيطاليون بين أن يتم تجنيدهما إجبارياً في الجيش الإيطالي ، أو أن يتم نفيهما خارج البلاد .. فآثر عيسى البقاء في أرض الوطن إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً .. بينما اختار ابن عمه النفي ، فقذف به وسط أمواج البحر المتلاطمة في جزيرة (سيراكوزا) الإيطالية النائية عن الأهل والوطن ..
ويتمرد الوكواك على جلاديه وظالميه ، فبعد أن أتقن فنون العسكرية والحرب والقتال ، وأجاد اللغة الإيطالية بطلاقة عجيبة ، يتحول الوكواك بعد أن هرب من معسكر الغزاة إلى رجل للمهمات الخاصة (كوماندوز) ، يقطع سبل الراحة والهدوء والسكينة عن أعين وقلوب المستعمرين القتلة البغاة .. وذلك ضمن سلسلة من الأحداث الدرامية المثيرة والملهبة للحماس ، والتي انتظمت في ملحمة طويلة مشرفة لكل شاب في ليبيا وفي كل أرض الإسلام ، لا يتسع المقام لسردها الآن كاملة .. والتي انتهت باستشهاده شنقاً عل أيدي الإيطاليين في آخر المطاف .. وسأكتفي من مجمل سيرة عيسى الوكواك العطرة بمشهد واحد ، يصب في خانة ما أشرت إليه عند بداية المقال من أخلاق المروءة عند الرجال العظماء ..
إنه ذلك المشهد الذي يبتدئ بزيارة الشهيد البطل عيسى الوكواك لأحد أبناء عمومته من قبيلة (العرفة) المجاهدة ، والذي كان يسكن منطقة قاريونس بالقرب من بنغازي .. يأتي الوكواك المطلوب الأول للسلطات الإيطالية متسللاً ومتخفياً إلى بيت ابن عمه .. وفي حديث سمر بين الإثنين ، يخبره ابن عمه عن جارٍ له في قاريونس ، وهو ذاك الشيخ الكبير السن الضعيف الجسد ، الذي يتجرع مرارة المهانة كل يوم ، لأن له بناتٍ يخرجن كعادة بنات ذلك الجيل من الفتيات الليبيات من أجل إحضار الحطب للبيت ، فيتعرضن يومياً لمضايقات الجنود الإيطاليين عند كل ذهاب وإياب .. والأب العاجز المسكين لا يملك حيال ذلك صرفاً ولا عدلاً .. وهنا تلتهب ألسنة نيران الغضب ، وتستعر المروءة والشهامة في صدر ذلك الشاب الليبي البطل ، فيتجه من فوره لوالد الفتيات ، طالباً تزويده بمزيد من الرصاصات ، لأن ما معه منها لا يكفي لأداء المهمة التي عقد العزم على إنهائها .. قائلاً له : ( أنا سأريحك منهم وإلى الأبد ) .. ويحصل على الرصاصات التي يريد .. ويجلس منتظراً مع الوالد وبناته قدوم أولئك السفلة المجرمين .. وبعد برهة من الزمن ، يتراءى أربعة منهم للوكواك على خيولهم قادمين من معسكرهم بانتظار خروج الفتيات الطاهرات المسكينات .. ويخرج عيسى الوكواك .. ليرديهم قتلى واحدهم فوق الآخر .. ولتعود خيولهم تعدو إلى معسكرها بدون من كانوا يمتطونها .. ولتزغرد الفتيات فرحاً بعودة الكرامة والثأر للعار ..
سبحان الله .. هأنذا الآن أقف أمام باب ضريح عيسى الوكواك .. أقف هنا الآن متعجباً كيف يمر شباب المرج بهذا الضريح كل صباح وكل مساء ، متناسين هذه الملاحم والبطولات التي سطرها بدمه شاب مثلهم اسمه عيسى الوكواك .. شاب من مدينتهم .. استنشق ذات الهواء الذي يستنشقون .. ومشى فوق ذات الأرض التي عليها يمشون .. يمرون به في طريقهم لمدارس البنات وكلياتهن ومعاهدهن ، لمضايقة أخواتهم والنيل من أعراضهن التي حرمها الله عليهم إلا بالحق .. أتعجب كيف يكون ذلك ؟ .. كيف ؟ .. أما أن يفعل المستعمر الصليبي ذلك فلا عجب .. ولكن العجب كل العجب أن يفعله الليبي بالليبيات .. المرجاوي بالمرجاويات .. الأخ المسلم بالأخوات المسلمات .. أجل إنه والله العجب العجاب ..
*عن كتاب ( ملاحم وأبطال ) . للدكتور فرج عبدالعزيز نجم ..بتصرف.

الاثنين، 17 يناير 2011

شبح المطر (قصة قصيرة) ..


(بقلم / عبدالله الشلماني )

( 1 )

- صباحٌ رائع ..
همست بها وأنا أطلق العنان لبصري من خلال زجاج نافذة السيارة المغلق بينما كنت متجهاً للعمل في ذلك الصباح الشتوي البليل ، كان البرد يومها قارساً كما هي عادته في مثل هذه الأيام من شهر شُباط فبراير من كل عام .
لم تكن الساعة حين بدا لي من على بُعدٍ يلوِّح للسيارات المارة ، قد تجاوزت الثامنة صباحاً ..بدا لي منظره مألوفاً تماماً كأي معلم من معالم الطريق التي أمر بها بسيارتي صباح كلِ يومٍ في طريقي إلى العمل .. بدا مألوفاً تماماً كأشجار "اليوكاليبتوس" العملاقة عند المنعطف ، وكأطلال المنـزل الإيطالي المهجور على يمين الطريق ، وكشرطي المرور الواقف عند حاجز التفتيش .. المطر ينهمر على الإسفلت بغزارةٍ وكأنه خيوطٌ متصلةٌ بين الأرض والسماء .. ومن حين صحوت عند أول نورٍ للفجر والرعد يقصف بشدةٍ وعنفٍ كما لم يكن قط في أي عاصفة مضت .. الأمر الذي ساعدني على النهوض باكراً من الفراش بشيء من الإرتياح ، ذلك أنني أدركت ببساطةٍ ، أن النوم لن يطيب لي مع هذه الرعود المدوية بحال .. وذلك بخلاف كل يومٍ ، حيث أصحو متذمراً متثاقلاً ألعن الساعة التي اخترع فيها الإنسان شيئاً اسمه الدوام .. في عجالة ، بدلت ملابسي .. تلحفت بمعطفي الشتوي الثقيل بعد أن احتسيت فنجان قهوةٍ ساخناً ، كانت أمي قد أعدته لي وأنا جالس بجوارها في المطبخ أراقب انهماكها واستمتاعها بإعداده وهي تحدثني كعادتها كل صباح .. حدثتني بإطنابٍ وشرحٍ كامل التفاصيل ، عما دار البارحةَ في مأتم جارنا العجوز من أمور . حيث تسرد بالتفصيل مدى حمق تلك " الجرباء " – على حد تعبيرها – عجوز عيت "الزروق" . ومدى بلاهتها وتعجرفها وتبجحها بمهر ابنة أختها الثمين ، وبرهنت لي أمي على صحة رأيها بمثـلٍ أسمعه للمرة الأولى :

- (( القوبة تزَّاين بشعر بنت خالتها ))
كما تناولت بالنقد كيفية إعداد الشاي الذي " ماتقدر تذوقه " في ذلك المأتم على نحوٍ لم تكن راضيةً عنه ولاموافقةً عليه .. وأنا أمام هذا السيل من الإنتقادات والتحليلات ، لاأملك إلا أن أستمع لا بل أن أبدي تأييدي لملاحظاتها حتى لا يطول مسار الحديث .. وبصعوبة .. استطعت بشيء من اللباقة أن أنسحب من ذاك الحوار بأن أقحمت فيه طرفاً ثالثاً هو شقيقي الذي أفاق لتوه من النوم واضعاً المنشفة على كتفه ولم يشطف وجهه بعد . حيث جعلتها بشكلٍ أو بآخر تتوجه بالحديث إليه لأخرج أنا مسرعاً وأستقل سيارتي متوجهاً إلى العمل .

( 2 )

شيئاً فشيئاً ، اقتربت بسيارتي من ذلك الرجل الواقف على جانب الطريق . وكلما اقتربت منه ، كلما تبين لي أكثر وأكثر بأنه أبداً ليس بالمألوف كما اعتقدت للوهلة الأولى . بل على العكس كان يبدو كلما اقتربت منه ، أكثر غرابةً وسطَ كلِ هذا الصخب . ردَّدت بيني وبين نفسي :
- ياإلهي .. من هذا الذي يجرؤ على الوقوف ههنا في مثل هذا الجو العاصف ..
خففت من سرعة السيارة التي لم تكن مسرعةً أصلاً بسبب غزارة المطر . وبمجرد أن وقفت بجانبه ، ارتمى على مقعد السيارة في لمح البصر مفلتاً من البرد والصقيع كأنما يفلت من براثن وحشٍ كاسر .
- صباح الخير ..
وجَّه ناظريه إليَّ وأطلق هذه العبارة مع سحابة كثيفة من البخار ، مختلطةً مع سحابةٍ أخرى لاتقل عنها كثافةً من التبغ . فرددت بدوري التحية وأنا بالكاد أميز ملامح وجهه وسط تلك السحابة البيضاء . كان رث الملابس ، تبدو عليه أمارات العوز . سروال مهتريء من الكتان الأصفر ، كنـزةٌ من الصوف انفرط نسيجها حتى بدت مثل كومة قش . ويمكن – بعد جهد جهيد – تمييز أن لونها يميل إلى الزرقة ، ولكن الغريب أنه كان ينتعل حذاءً جديداً جميلاً يشكل مع جملة ما يرتديه نشازاً ، تماماً مثل لوحة تجريدية تجمع كل النقائض في إطار واحد . ويبدو من رأسه الأشيب وتجاعيد وجهه التي بدأت تتضح بالتدريج مع انقشاع سحابة التبغ والبخار ، أنه ربما قد تجاوز الستين .. وفي محاولة مني لأن أفتح معه حديثاً يكسر ذلك الصمت المحرج الذي يسود اللقاءات دائماً عندما لا تريده ، رأيت أن أسأله عن اسمه ، لعلي أستنبط من إجابته شيئاً يدلني على ماهية هذا الرجل الذي لم أشكَّ للحظةٍ منذ أن نظر إلىَ بعينيه المغرورقـتين بأنه لغزٌ كبير . سألته :
- من أنت ياسيِّد ؟
فأجاب بعد أن سحب نفساً طويلاً من لفافة التبغ المبللة ، ثم نفثه بطريقةٍ تنم عن أسىً وحزنٍ كبيرين :
- إن كنت تسأل عما يجب أن أكون عليه فأنا كل شيء تقريباً ، أما إن كنت تسأل عن واقعي فأنا لاشيء ..
ثم أشاح بوجهه عني ناظراً عبر النافذة الزجاجية على يمينه ، وبالرغم من أن زجاج النافذة كان معتماً لايكاد يشِف عن شيءٍ بسبب ما تلبد عليه من بخار ، إلا أنه أطال وأمعن النظر من خلاله وكأنه يرى من خلاله الدنيا بأسرها .. تساءلت بيني وبين نفسي ثانيةً :
- رباه .. من هذا الذي ابتليت به في هذا الصباح ؟
ثم دارت في خلدي تساؤلات :

- أسأله من أنت ؟ فيجيب بكلمات كأنها الشعرُ أو الفلسفةُ أو شيءٌ من تمتمة الكهان والسحرة، ترى هل هو مجنون ؟ لعمري ما أظنه إلا أفلاطون هذا الزمان.
لكنني توصلت بعد تفكيرٍ لم يدم طويلاً ، إلى أن هذا الرجل ليس بالرجل العادي كائناً من كان . وعاد الصمت من جديد ..

( 3 )

... عبر الطريق ، كنت أسارقه النظر بين الفينة والفينة . ومع كل نظرةٍ يزيد الرجل في عينيَّ هيبةً وجلالاً وإبهاماً في آنٍ معاً .. مع كل نظرةٍ منه إلىَّ أو مني إليه ، ترتسم علامات الإستفهام والتعجبِ ، بل وحتى النقاطُ والفواصلُ وكل علامات الترقيم .. من هذا ..؟ أشبحٌ هو .؟ لابد أنه شبح .. أمعقول هذا ..؟ ولكن لم يمر بي يوماً أن الأشباح تظهر في النهار .. تملكتني الحيرة .. توترت .. أفكارٌ سخيفةٌ بدأت تراودني وأخرى مرعبة .. وهو يرمقني كل قليلٍ بذات العينين المغرورقتين وتعلو وجهه ابتسامةٌ هي أقرب ما تكون إلى ابتسامة الشماتة ، أجل .. تبدو عليه الشماتةُ ، وكأنه لاحظ مدى ارتباكي وتوتري ..
وكما هي عادتي في كثيرٍ من الأحيان ، أردت أن أتحاذق وأتذاكى وأن أظهر مدى تماسكي وسيطرتي على الأوضاع . وذلك بأن مددت يدي إلى منفضة السجائر لأسحبها كنوعٍ من الدبلوماسية و" الإيتيكيت " ، حتى يتسنى له إطفاء عقب سيجارته فيها . والواقع أنني ما فعلت ذلك إلا لمجرد أني أردت أن أظهر بمظهر الواثق الذي لايعيره اهتماماً ، ولأخفي ما بات جلياً أنه بدا عليَّ من التوتر والإرتباك . وفجأةً ، وأثناء ذلك ، انطلق بقربي انفجارٌ مدوٍ ارتعدت له فرائصي وكدت معه أن أفقد السيطرة على عجلة القيادة .. فضلاً عن فقدان السيطرة على الأوضاع كما حاولت أن أظهر . لأكتشف بعد ثانية واحدة ، أن الإنفجار ما كان إلا سعلةً قوية انطلقت من صدر العجوز القابع بجواري .
وبعد أن استقرت سيارتي المترنحة على الطريق من جديد ، نطق الرجل الكهل بصوتٍ رخيمٍ :
- لاتخف يا أستاذ .. خذ حذرك ..
ثم ابتسم ذات الإبتسامة الشامتة . وسرعان ما اكتشفت أيضاً أن سعلته تلك كانت زائفةً ومفتعلة ، وأن غرضه منها كان إفزاعي والسخرية مني ومن تحاذقي ..عندها ، شعرت بخليطٍ من النقمة وخيبة الأمل في الوقت ذاته . ثم قلت لنفسي :
- لاعليك ياهذا هديء من روعك ، إن هذا الرجل هو كأي رجل ، كل ما في الأمر أنك منفعلٌ ومضطربٌ قليلاً ربما لأنك صحوت باكراً ولم تنل قسطاً وافراً من النوم ..
استجمعت قواي وبقيةً من رباطة جأشي .. تنحنحت .. وزمَمْتُ شفتيَّ بشيءٍ من الإستعلاء في محاولةٍ بائسة للتظاهر باللامبالاة . سألته :
- إذاً لابد أنك ذاهب للعمل .. ما عملك يا حاج ؟
فأتى الجواب أكثر غرابةً وإ بـهاماً من الجواب الأول ، حيث قطب ملياً ثم أطرق وقال :
- صناعة البشر ..!!
.. سمَّرني جوابه في مقعدي من الإرتباك .. لولا أنه أردف :
- لالا .. أستغفر الله ، صناعة البشر هي بيد الله وحده .. بل عملي هو صياغة البشر ، أجل صياغة البشر .. وليس من المستبعد أن تكون أنت ممن صُغتهم ذات يوم ..!!
وهي هي ، ذات الإبتسامة الشامتة تعلو محياه من جديد . وهو هو ، ذات الشعور المختلط من النقمة وخيبة الأمل يملأني ويغوص فيَّ حتى النخاع . تمنيت أن تنتهي الطريق بسرعةٍ أو أن تتحول السيارة إلى صاروخٍ يصلُ بي في ثانية واحدة إلى حيث يريد هذا العجوز البغيض ، عسى أن أتخلص منه إلى الأبد . تصاعد في صدري الشعور بالحنق والغضب .. الدم يغلي في رأسي .. أكاد أسمعه يغلي .. رحت أتخيل أنني ممسكٌ بتلابيب هذا الشبحِ " أعني الرجلَ " وأقذف به خارج السيارة وأدهسه بعجلاتها . غمرتني هذه التهيؤات بنوعٍ من تنفيس شحنة الغيظ والشعور بالتشفِّي ، مما دفعني لأن أتخيل أبعد من ذلك . حيث رحت أتخيل أنني أشده من كلتا أذنيه وأسدد له ضربةً من ركبتي إلى أسفل بطنه كما في أفلام " الكاوبوي " ، وأنني أكيل له اللكمات .. والصفعات .. والركلات .. ثم ..
... ثم أفقت من تهيؤاتي وتخيلاتي على صدى صوت بوق السيارة ، حيث يبدو أنني سددت لكمةً إلى الزر الذي يشغله فوق المقود ، أثناء استغراقي في تلك المعركة الإفتراضية ، بدلاً من تسديدها لأسفل بطن العجوز..! وهنا ، نظرت إلى الشبح "عفواً إلى الرجل" فإذا به هذه المرةَ يضحك ملء فمه وهو يقول :

- إهدأ يا رجل فأنا لم أكذب عليك في شيءٍ صدقني . أنا كلُ شيءٍ حقيقةً ، وأنا لاشيءَ واقعاً وثق أن عملي هو صياغة البشر ، تشكيل البشر ..

قالها ضاحكاً بعاطفةٍ جياشةٍ ، تخلى فيها عن إبداء روح السخرية والشماتة ، وكأنه أشفق عليَّ مما أنا فيه . وأضاف راغباً في طمأنتي :
- سنصل قريباً إلى مقر عملي ..
.. شعرتُ بنوعِ ارتياحٍ وهدوء .. إرتياحٌ وهدوء دفعاني إلى التذاكي من جديد ، وإنما بيني وبين نفسي هذه المرة وليس أمام الرجل ، فمن الواضح أن نتيجة التذاكي على هذا الرجل معروفةٌ سلفاً . أردت التذاكي بيني وبين نفسي فطفقت أهمس :
- إن إنساناً من هذا النوع قادرٌ على أن يتلاعب بانفعالاتي ومشاعري وردود أفعالي كيفما يشاء ، يثيرني مرةً ، ويُفزعني أخرى ، ويحيرني الثالثةَ ، ثم يعود ليُهدأني ويطمأنني ويبعث فيَّ شعوراً من الحميمية مرةً رابعة ، إنسانٌ من هذا النوع ، لابد أنه طبيبٌ نفسي ، فهم وحدهم الأطباء النفسانيون هم القادرون على مثل هذا . كما أنهم عادةً يبدون غريبي الأطوار كما هي حالُ هذا الرجل . غير أن علامات الإستفهام والتعجب الأولى عادت لترتسم أمام ناظريَّ من جديد . إذ كيف يكون الطبيب النفسي هو كل شيءٍ حقيقةً ، ولا شيءَ في الواقع ؟ بل كيف يصوغُ الأطباء النفسانيون البشرَ ويعيدون تشكيلهم ؟ ثم إن الأطباء هنا معروفون ، وهم عادةً ميسورو الحال وفي رغدٍ من العيش ، وليس كما يظهر هذا العجوز .
عجوز؟! .. حقاً .. ولكنه رجلٌ عظيم ، نعم عظيم .. هذا ما اقتنعت به من الصميم وعلى الرغم من كل شيء .. أياً كانت ماهية هذا العجوز وأياً كانت وظيفته أو مهنته فلا ريب أبداً أنه رجلٌ غير عادي .. سواءٌ كان مجنوناً أم طبيباً أم ساحراً أم شبحاً أم أي شيء .. المهم هو عظيم .. ولقد كان الرجل صادقاً . فمقر عمله لم يكن بالفعل بعيداً .. إذ ما هي إلا مسافةٌ قصيرةٌ حتى أشار إليَّ بيده أن توقف ، فتوقفت .. التفتَ الشبحُ - أعني الرجلَ - ناحيتي وهو يفتح باب السيارة قائلاً :
- أعذرني إن كنت قد أزعجتك بغموضي وغرابتي ، فهذا أمرٌ يقول الناس أنه صفةٌ ملازمةٌ لي .. شكراً على كل شيء ..
ومدَّ إليَّ يده ليصافحني .. فشددت على أنامله النحيلة بحرارة . حرارة من يشد على أنامل رجل عظيمٍ بكل المقاييس .
أغلق باب السيارة وراءه ، وبقيت أنا داخل السيارة مأخوذاً . أنظر إليه وهو يمضي بخطوات ثابتةٍ ملؤها الثقة .. دخل إلى مقر عمله .. وعند هذه اللحظة بالذات ، أيقنت فعلاً وبما لا يدع مجالاً لأي شكٍ ، أن ذلك الشبح الرجل ، أو الرجل الشبح ، هو كل شيءٍ في الحقيقة ، وأيقنت كذلك أنه وبكل أسـفٍ وبـكل مرارةٍ وحرقة ، لا شيءَ في الواقع الذي نحياه . أيقنت أيضاً أنه هو ، وهو لوحده ، من صاغني ، وأعاد تشكيلي ، كما صاغ وأعاد تشكيل كل الآخرين ..! أيقنت كل هذا بمجرد أن دخل ذلك الشبحُ إلى مقر عمله .. حيث لم يكن مقر عمله ذاك سوى مدرسةٍ ابتدائيةٍ متشققةِ الجدران .. وحيث لم يكن ذلك الشبح إلا معلماً من الرعيل الأول ..!؟