أرشيف الزمن
مدونة الكاتب الليبي عبدالله الشلماني alshelmany@gmail.com
الأحد، 28 يونيو 2020
الثلاثاء، 24 أبريل 2012
أبجديات النهضة .. بقلم / عبدالله الشلماني
الاثنين، 20 يونيو 2011
ومضات من تاريخ دولة الإستقلال
بقلم / عبدالله الشلماني ..
(الحلقة الأولى)
الكثيرون من جيل شبابنا الصاعد في ليبيا يجهلون بشكل يكاد يكون تاماً تاريخ دولة الإستقلال الليبية ، وذلك نتيجة للتجهيل المتعمد من قبل النظام الجائر . الذي اختزل تاريخ ليبيا في انقلاب 1969 وكأن ما قبله من الزمن لم يعرف شيئاً اسمه ليبيا . ونحن هنا لن نسرد تاريخ ليبيا الحبيبة منذ فجر ولادتها ، لأن في الكتب والمراجع ومناهج المدارس والجامعات ما يغني المهتم بهذه الحقب . لكننا سنركز على ولادة دولة ليبيا الحديثة الذي أعلن استقلالها في 24 ديسمبر 1951 ، بعد مخاض طويل من الجهاد العسكري والسياسي في أرض الوطن وفي المنافي .
كانت ليبيا تحت حكم الخلافة العثمانية في عهده الثاني والأخير الذي فصلت بينه وبين العهد العثماني الأول دولة القرمانليين شبه المستقلة والتابعة إسمياً فقط للباب العالي بالآستانة . وذلك عندما احتلت قوات إيطاليا شواطيء ليبيا سنة 1911 كما احتلت دواخلها بعد ذلك . ومع هذا الإحتلال بدأ الليبيون في عهد من الجهاد المشرف ، حيث سطروا بدمائهم ملاحم من البطولات والإقدام المنقطع النظير شهد لهم بها الأعداء قبل الأصدقاء . وبلغ السيل الزبى واشتدت قبضة الإيطاليين على جنود وقادة الجهاد الليبيين عندما انتهت حركة الجهاد المنظم بأسر وإعدام الشيخ عمر المختار والذي كان يقود حركة الجهاد وجبهات القتال المعروفة (بالأدوار) كوكيل ميداني عن السيد محمد إدريس المهدي السنوسي القائد الروحي لحركة الجهاد في برقة والذي كان يدير دفة القتال في الإقليم الشرقي من ليبيا والمعروف بـ ( برقة ) من منفاه الإجباري في مصر . حيث أعدم المختار في سبتمبر 1931 . كما توقف القتال المنظم في إقليم غرب ليبيا (طرابلس) في وقت مبكر مع احتلال مدن الدواخل . ولم يتبق في ليبيا سوى جيوب قتالية متفرقة هنا وهناك . كما هاجر معظم المجاهدين من الجنود والقادة إلى المنافي في مصر وتونس وفلسطين وسوريا وتركيا وغيرها لمواصلة الجهاد الدبلوماسي والسياسي .
وهنا تماماً وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939 التي تحالفت فيها إيطاليا مع ألمانيا ضد الحلفاء والذين كانت من ضمنهم بريطانيا ، يستغل السيد إدريس السنوسي باني دولة ليبيا الحديثة بحنكته ودهائه السياسي النادر هذه التحالفات والظروف الدولية البالغة التعقيد لكي يعمل على تحرير ليبيا من المستعمر الإيطالي البغيض . حيث كانت بريطانيا تحتل مصر وقد هاجمها الألمان بالتعاون مع الإيطاليين ليستولوا منها على الأراضي المصرية ولتأمين منفذ قناة السويس الإستراتيجي والسيطرة عليه . فكان من الطبيعي أن تقاوم بريطانيا هذا الهجوم بهجمة عكسية ضد الإيطاليين والألمان في ليبيا ، وطلبت بريطانيا المساعدة من السيد إدريس السنوسي مع رفاقه الليبيين باعتبارهم أدرى بالطرق والمسالك ونقاط الضعف والقوة في الأراضي الليبية . فاشترط السيد إدريس – ملك ليبيا لاحقاً – على الإنجليز الحصول على تعهد رسمي بالإستقلال لقاء مساعدتهم في المهمة التي طلبوها . فحصل على تعهد رسمي معلن بهذا على لسان وزير خارجية بريطانيا (أنطوني إيدن) أمام مجلس العموم البريطاني ، والذي استغله إدريس السنوسي بعد ذلك في الضغط على بريطانيا والأسرة الدولية لنيل إستقلال ليبيا . وبالفعل يشكل السنوسي جيش ليبي من المجاهدين الليبيين المهاجرين إلى مصر عرف لاحقاً (بالجيش السنوسي ) أو (جيش التحرير) ، والذي كان النواة الأولى للجيش الليبي الحديث والحالي وذلك سنة 1941 بالقاهرة . وهو الجيش الذي كان له الفضل والنصيب الأكبر من أسباب اندحار ألمانيا وإيطاليا وتحرير ليبيا منهما وذلك بشهادة قادة وجنرالات الجيش البريطاني قبل غيرهم . وسنعرف في الحلقات القادمة كيف سارت الأحداث التاريخية حتى نالت ليبيا استقلالها في نهاية المطاف ..
الأربعاء، 15 يونيو 2011
مذكرات راقد ريح (سابق)
إنها الرابعة والنصف فجراً .. ضوء الصباح يتسلل عبر شقوق النافذة الموصدة .. لكن الحجرة لا تزال معتمة .. صمت مطبق داخل البيت ماعدا صوت ساعة الحائط :
_ " طق ، طق ، طق ، طق .. " .
بدأت أتساءل فيما كنت مستلقياً في الفراش وقد جافاني النوم : ترى في مصلحة من تسير عقارب هذه الساعة ؟ هل في صالح القذافي المحاصر قي حفرةٍ ما من باب العزيزية ؟ .. أم في صالح حلف "الناتو" الذي يرمي مع كل ثانية تخطوها عقارب هذه الساعة صاروخاً بقيمة مليوني دولار ليضيفها إلى فاتورة الحساب التي سيسددها الليبيون ؟ .. أم أنها لصالح الليبيين الذين تتضاءل المسافات وتذوب الحساسيات بينهم كلما طال أمد المعركة ؟ .. وبعد مقارنة سريعة في مخيلتي وصلت إلى نتيجة بسيطة مفادها الآتي : بما أن معمر القذافي خارج المقارنة أصلاً لأن حركة سير عقارب الساعة هي في عكس مصلحته بكل تأكيد .. إذاً تبقى المقارنة محصورة بين "الناتو" والليبيين .. تنهدت هامساً بزهو :
_ "ياعيني عليك يابو الشلماني .. نشهد بالله انك محلل سياسي "دلعبي" .. صقع علي (عزمي بشارة) وصقع علي (السنوسي بسيكري) .. " .
في هذه الأثناء - ولست أدري لماذا - ذهب بي الخيال إلى استوديوهات (الجزيرة) و(العربية) .. وتخيلت نفسي جالساً بجوار (جمال ريان) أو (منتهى الرمحي) .. حيث أجيب بتحليل عسكري وسياسي معمق ومسهب عن أسئلتهما .. لكن "طقطقة" عقارب الساعة الحائطية أعادتني إلى الواقع من جديد .. وهنا تذكرت أنني لم أكمل المقارنة بعد بين مصلحة "الناتو" ومصلحة الليبيين في استمرار طقطقة الساعة .. رحت أفكر ملياً من جديد مردداً بيني وبين نفسي :
_ حسناً .. من مصلحة "الناتو" بكل بساطة أن ترتفع تكلفة فاتورة المعركة .. فكلما ازدادت طقطقات الساعة كلما ازداد "الناتو" في مكاسبه المادية والسياسية والعسكرية .. والحديث هنا طويل ومرير وذو شجون لو أردت الإسترسال .. "ماعلينا" .. أما الليبيون فمن مصلحتهم أيضاً – وكما يخفى على الكثيرين – أن تطول مدة حربهم مع هذا "المنجوه" .. حيث ينهار هرم سلطته من القاعدة باتجاه القمة التي يمثلها هو شخصياً .. فبسقوطه سيزول آخر أثر لنظامه الأسود بعد زوال كل الرموز والقيادات والمؤسسات والنظريات والمليشيات و و و الخ .. وبالتالي سينعم الليبيون باستلام ليبيا نظيفة ورائعة كالتي استلمها هو عند انقلابه المشؤوم في 1969 .. وهذا بالطبع يحتاج إلى وقت أطول .. وذلك بعكس تونس ومصر اللتين سقط فيهما سريعاً رأس الهرم قبل زوال قاعدته العريضة من الرموز والقيادات وبالتالي لا يزال المصريون والتونسيون يكدحون وينصبون في سبيل إزالتها وكنسها ..
قررت النهوض من الفراش واتجهت حافياً إلى حيث الساعة الحائطية .. وقفت أمامها متأملاً فيما كانت يداي معقودتان خلف ظهري .. لم أستطع إخفاء الشعور بالإعجاب والخيلاء بتحليلاتي العسكرية و "الجيوسياسية" .. قلت في نفسي مجدداً :
_ كون أنني محلل سياسي "دلعبي" هذي ما تبيش اثنين يحكوا فيها .. لكن للأسف القنوات الفضائية ما يندروش عليَّ .
أمعنت النظر أكثر وأكثر في عقارب الساعة .. تساءلت :
_ ترى ماذا يفعل مجنون باب العزيزية الآن ؟ "زعمة يمشط في شفشوفته ؟ .. لا لا .. لو كان يمشط فيها راها مش هكي .. وبعدين ما ناقص عليه غير يمشط ! " ..
أتراه نائم ؟ .. والله ما أعتقد .. "النوم وين والقذافي وين" .. سبحان الله .. كم كان القذافي يتلذذ بطقطقات عقارب الساعة على مدى 42 سنة خلت .. لكن ليس منذ 17 فبراير فصاعداً .. وهنا تحديداً خطر ببالي تساؤل خطير تعجز عنه تحليلاتي لو أن (الجزيرة) أو (العربية) سألتني إياه .. التساؤل هو :
لو أن عقارب الساعة رجعت إلى الخلف حتى صباح 17 فبرابر ، وفُتحت في نفس الوقت أستار الغيوب أمام بصر هذا "المنجوه" ليرى ما سيحل به على أيدي الليبيين بعد هذا التاريخ ، ترى كم كان سيدفع من الأموال والتنازلات لقاء تفادي هذه النهاية الكارثية ؟! .. فكرت طويلاً .. لم أجد جواباً .. قلت في نفسي مهزوماً ومعترفاً بالعجز :
_ "هذي ما يجاوب عليها إلا (عزمي بشارة) أو (السنوسي بسيكري) " !!
الأحد، 5 يونيو 2011
مذكرات راقد ريح .. بقلم / عبدالله الشلماني
ملحوظة / قبل 17 فبراير 2011 نُشرت 8 حلقات من هذه السلسلة من المقالات الأدبية تحت اسم (مذكرات راقد ريح) .. وبعد 17 فبراير 2011 ها هي الحلقة الأولى من الجزء الثاني من نفس السلسلة لكن تحت عنوان : مذكرات راقد ريح (سابق) ..
الحلقة الأولى : حالة التصاق
دخلت إلى "المربوعة" متلهفاً لسماع الأخبار .. ولجت بسرعة عائداً من ساحة (الشهيد علي حسن الجابر) في مدينة المرج بعد الإنتهاء من وقفتنا الإحتجاجية اليومية على مجازر الطاغية وللمطالبة برحيله .. بعض شباب أسرتي سبقوني بالعودة من الساحة وجلسوا يشاهدون أخبار ( الجزيرة ) .. ألقيت التحية :
- السلام عليكم ..
- سلام ..
- مازال قاعد ؟
- ...............!
فهمت من صمتهم البليغ ومن ملامح وجوههم المتجهمة أنه (مازال قاعد) .. شهران يمران الآن وهو لا يزال "ساكن" ويتشبث بقوائم الكرسي .. رغم أننا نسحبه من رجليه عن الكرسي منذ شهرين .. اللعنة .. إنه ملتصق تماماً .. تنهدت مردداً بيني وبين نفسي :
- " الله يعطيه دعوة " ..
هذا (المخلوق) العجيب يستعصي على الفهم بالنسبة لي .. فهو إما يتلقى التعليمات لقتل الشعب الليبي الأعزل من خارج مجرة درب التبانة ، وذلك عن طريق الأطباق الطائرة كما في المسلسل الكرتوني (غريندايزر) متقمصاً دور (زوريل) ، وإما أنه ينتمي لعالم الجن والشياطين ويأتمر بأمرهم .. معقولة !؟ .. لا أعتقد أن ثمة إنساناً مهما كانت درجة غبائه يعجز عن فهم هذه المعادلة البسيطة .. شعب فوق أرضه يقول بأكمله لمن يحكمه وبصوت واحد : (إرحل) .. الإستجابة الطبيعية حتماً ودون عناء ولا تفكير هي الرحيل .. لا جدوى من التلكؤ .. و كان ينبغي بدل أن يكون هذا الرحيل مأساوياً وفضائحياً كما يحدث معه الآن ، أن يخرج بشيء من حفظ ماء (القفا) !؟ لأن وجهه لم يعد به ماء ولا حتى دم ..
المهم أنني جلست في حجرتي متأملاً في ملامح المشهد .. دارت في خلدي أشياء كثيرة .. وشردت بي الأفكار بعيداً .. من "المربوعة" كان يصل إليَّ صوت التلفاز خافتاً بعض الشيء .. لقد كان فاصلاً تبثه بعض القنوات الإخبارية بتهكم واضح لمقتطفاتٍ من خطابه المجنون .. أستطيع الآن تمييز صوته المتهدج وهو يزعق :
- " سأزحف آني والملايين لتحرير ليبيا بيت بيت .. دار دار .. زنقة زنقة .. شبر شبر .. فرد فرد " ..
وجدت نفسي أردد تلقائياً ولا إرادياً :
- "الله يعطيه دعوة .. دعوة زي الدعوة اللي مزقت كم كبوطه " ..
بدأت أفكر فيما يجب عمله .. فالواجبات الآن أكثر بكثير من الأوقات المتاحة لإنجازها .. هل أذهب لجبهة القتال ؟ .. لكنني لا أمتلك بندقية للأسف الشديد .. فحظي المنحوس كدأبه دائماً لم يتح لي أن أكون أحد مقتحمي مخازن الأسلحة لأحظى بواحدة ، ولا أنا أمتلك الثلاثة آلاف دينار ثمناً لها في ساحة بيع الخضار بالمرج حيث تباع بجوار الجرجير والفجل بدل التبرع بها للثوار !! .. ومجرد ذهابي إلى هناك بدون بندقية هو محض عبث .. يعني أنني سوف ألتهم ما يجلب للثوار من المؤن بدون فائدة .. عمالة زائدة .. وبما أنني بدون بندقية فمكاني بلا ريب هو الخطوط الخلفية حيث الطناجر وقدور الطبخ .. والإحتمال الأرجح بالتالي هو أنني سوف أموت بلا طائل إما بقذيفة قذافية – وما أجمل الجناس في "القذيفة القذافية" – وذلك عند إحدى خيانات الطابور الخامس ، وإما بقصف بطريق "الخطأ" من قبل طائرات (الناتو) .. يعني بالليبي الفصيح "في غوط باطل" .. ما العمل إذاً ؟ .. توصلت إلى قناعة تامة بضرورة البحث عن دور في الجبهة المدنية .. في الحراك السلمي للثورة .. وهذا الدور أستطيع القيام به بسهولة وبنجاح على ما أعتقد .. كيف لا ؟ التضحيات في العمل السلمي مهما عظمت فلن تبلغ عظمة التضحية بالروح .. لذا سأواصل التظاهر في ميدان الشهيد علي الجابر بالمرج .. وسأشارك في المظاهرات الحاشدة أمام محكمة بنغازي .. سأدعو عليه خلف الإمام في القنوت لكل صلاة .. سأذرف دموعاً وأنا أشيع جثمان كل شهيد ، أذيب فيها ألم فراقه في فرحة زفافه إلى الفردوس الأعلى .. هذا أقل ما يمكنني عمله .. لن أقعد عن المطالبة بحقوقي بعد اليوم .. نعم .. الطريق لإنهاء حالة الإلتصاق العجيبة هذه مضمخة بدماء آلاف الشهداء .. إنها طويلة .. لكننا سنسلكها إلى آخرها .. إلى باب العزيزية ..
يتبادر إلى مسامعي من "المربوعة" صوت التلفاز من جديد .. إنه يزعق هذه المرة :
- " أنا هنا ، أنا هنا ، أنا هنا . !! ؟؟ " ..
زعقت بدوري حانقاً ومجيباً :
- " جايينك ، جايينك ، جايينك .. " ..
الأربعاء، 16 فبراير 2011
وقفات أمام تاريخنا 1
(عيسى الوكواك ..أمانة العرض)*
بقلم / عبدالله الشلماني ..
صادف أنني كنت صباح الأمس ماراً بسيارتي بالقرب من إحدى المدارس الثانوية للبنات بمدينتي ( مدينة المرج ) ..وإذا بي – وفي الأثناء – أشاهد مجموعة من الشباب وهم مجتمعون واقفين على ناصية الشارع قبالة المدرسة ، مترصدين للفتيات الخارجات من المدرسة بغرض معاكستهن واللحاق بهن ومضايقتهن بالكلمات النابية والخادشة للحياء والبعيدة عن مروءة الرجال الشرفاء .. فأثّر ذلك المشهد المحزن في نفسي تأثيراً بالغاً .. وشعرت بضيق كبير لا يمكنني وصفه بالكلمات مهما كانت بليغة .. إنه شيء مخجل .. أن يكون شباب ليبيا هكذا .. مائعون .. لا هدف لهم ولا رسالة .. لم تكن هذه الأخلاق الذميمة من شأن الليبيين ولا من طبائعهم في يوم من الأيام ..
في اليوم ذاته ، وقبل أن أنتهي من ذات المشوار بالسيارة ، مررت بعد هذا المشهد المؤلم بضريح المجاهد الليبي البطل (عيسى الوكواك) .. ذلك المرجاوي المغوار .. ذلك الشاب النادر المثال .. لست أدري ما السبب الذي دفع بي لأن أقف بسيارتي قبالة باب الضريح .. تأملت الضريح ملياً .. تساءلت : أين شبابنا الذين رأيتهم قبل قليل من شاب مثلك يا عيسى الوكواك ؟ .. يا له من فرق شاسع .. لقطات وومضات من سيرة ذاك الفتى الرائع أخذت تتداعى إلى ذاكرتي .. أجل .. إنه عيسى الوكواك .. الذي قبض عليه الإيطاليون الغزاة عام 1915 م .. عندما كان فتىً يافعاً يتسوق مع ابن عم له في سوق الظلام بمدينة بنغازي .. فخيّرهما الإيطاليون بين أن يتم تجنيدهما إجبارياً في الجيش الإيطالي ، أو أن يتم نفيهما خارج البلاد .. فآثر عيسى البقاء في أرض الوطن إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً .. بينما اختار ابن عمه النفي ، فقذف به وسط أمواج البحر المتلاطمة في جزيرة (سيراكوزا) الإيطالية النائية عن الأهل والوطن ..
ويتمرد الوكواك على جلاديه وظالميه ، فبعد أن أتقن فنون العسكرية والحرب والقتال ، وأجاد اللغة الإيطالية بطلاقة عجيبة ، يتحول الوكواك بعد أن هرب من معسكر الغزاة إلى رجل للمهمات الخاصة (كوماندوز) ، يقطع سبل الراحة والهدوء والسكينة عن أعين وقلوب المستعمرين القتلة البغاة .. وذلك ضمن سلسلة من الأحداث الدرامية المثيرة والملهبة للحماس ، والتي انتظمت في ملحمة طويلة مشرفة لكل شاب في ليبيا وفي كل أرض الإسلام ، لا يتسع المقام لسردها الآن كاملة .. والتي انتهت باستشهاده شنقاً عل أيدي الإيطاليين في آخر المطاف .. وسأكتفي من مجمل سيرة عيسى الوكواك العطرة بمشهد واحد ، يصب في خانة ما أشرت إليه عند بداية المقال من أخلاق المروءة عند الرجال العظماء ..
إنه ذلك المشهد الذي يبتدئ بزيارة الشهيد البطل عيسى الوكواك لأحد أبناء عمومته من قبيلة (العرفة) المجاهدة ، والذي كان يسكن منطقة قاريونس بالقرب من بنغازي .. يأتي الوكواك المطلوب الأول للسلطات الإيطالية متسللاً ومتخفياً إلى بيت ابن عمه .. وفي حديث سمر بين الإثنين ، يخبره ابن عمه عن جارٍ له في قاريونس ، وهو ذاك الشيخ الكبير السن الضعيف الجسد ، الذي يتجرع مرارة المهانة كل يوم ، لأن له بناتٍ يخرجن كعادة بنات ذلك الجيل من الفتيات الليبيات من أجل إحضار الحطب للبيت ، فيتعرضن يومياً لمضايقات الجنود الإيطاليين عند كل ذهاب وإياب .. والأب العاجز المسكين لا يملك حيال ذلك صرفاً ولا عدلاً .. وهنا تلتهب ألسنة نيران الغضب ، وتستعر المروءة والشهامة في صدر ذلك الشاب الليبي البطل ، فيتجه من فوره لوالد الفتيات ، طالباً تزويده بمزيد من الرصاصات ، لأن ما معه منها لا يكفي لأداء المهمة التي عقد العزم على إنهائها .. قائلاً له : ( أنا سأريحك منهم وإلى الأبد ) .. ويحصل على الرصاصات التي يريد .. ويجلس منتظراً مع الوالد وبناته قدوم أولئك السفلة المجرمين .. وبعد برهة من الزمن ، يتراءى أربعة منهم للوكواك على خيولهم قادمين من معسكرهم بانتظار خروج الفتيات الطاهرات المسكينات .. ويخرج عيسى الوكواك .. ليرديهم قتلى واحدهم فوق الآخر .. ولتعود خيولهم تعدو إلى معسكرها بدون من كانوا يمتطونها .. ولتزغرد الفتيات فرحاً بعودة الكرامة والثأر للعار ..
سبحان الله .. هأنذا الآن أقف أمام باب ضريح عيسى الوكواك .. أقف هنا الآن متعجباً كيف يمر شباب المرج بهذا الضريح كل صباح وكل مساء ، متناسين هذه الملاحم والبطولات التي سطرها بدمه شاب مثلهم اسمه عيسى الوكواك .. شاب من مدينتهم .. استنشق ذات الهواء الذي يستنشقون .. ومشى فوق ذات الأرض التي عليها يمشون .. يمرون به في طريقهم لمدارس البنات وكلياتهن ومعاهدهن ، لمضايقة أخواتهم والنيل من أعراضهن التي حرمها الله عليهم إلا بالحق .. أتعجب كيف يكون ذلك ؟ .. كيف ؟ .. أما أن يفعل المستعمر الصليبي ذلك فلا عجب .. ولكن العجب كل العجب أن يفعله الليبي بالليبيات .. المرجاوي بالمرجاويات .. الأخ المسلم بالأخوات المسلمات .. أجل إنه والله العجب العجاب ..
*عن كتاب ( ملاحم وأبطال ) . للدكتور فرج عبدالعزيز نجم ..بتصرف.
الاثنين، 17 يناير 2011
شبح المطر (قصة قصيرة) ..
(بقلم / عبدالله الشلماني )
( 1 )
- صباحٌ رائع ..
همست بها وأنا أطلق العنان لبصري من خلال زجاج نافذة السيارة المغلق بينما كنت متجهاً للعمل في ذلك الصباح الشتوي البليل ، كان البرد يومها قارساً كما هي عادته في مثل هذه الأيام من شهر شُباط فبراير من كل عام .
لم تكن الساعة حين بدا لي من على بُعدٍ يلوِّح للسيارات المارة ، قد تجاوزت الثامنة صباحاً ..بدا لي منظره مألوفاً تماماً كأي معلم من معالم الطريق التي أمر بها بسيارتي صباح كلِ يومٍ في طريقي إلى العمل .. بدا مألوفاً تماماً كأشجار "اليوكاليبتوس" العملاقة عند المنعطف ، وكأطلال المنـزل الإيطالي المهجور على يمين الطريق ، وكشرطي المرور الواقف عند حاجز التفتيش .. المطر ينهمر على الإسفلت بغزارةٍ وكأنه خيوطٌ متصلةٌ بين الأرض والسماء .. ومن حين صحوت عند أول نورٍ للفجر والرعد يقصف بشدةٍ وعنفٍ كما لم يكن قط في أي عاصفة مضت .. الأمر الذي ساعدني على النهوض باكراً من الفراش بشيء من الإرتياح ، ذلك أنني أدركت ببساطةٍ ، أن النوم لن يطيب لي مع هذه الرعود المدوية بحال .. وذلك بخلاف كل يومٍ ، حيث أصحو متذمراً متثاقلاً ألعن الساعة التي اخترع فيها الإنسان شيئاً اسمه الدوام .. في عجالة ، بدلت ملابسي .. تلحفت بمعطفي الشتوي الثقيل بعد أن احتسيت فنجان قهوةٍ ساخناً ، كانت أمي قد أعدته لي وأنا جالس بجوارها في المطبخ أراقب انهماكها واستمتاعها بإعداده وهي تحدثني كعادتها كل صباح .. حدثتني بإطنابٍ وشرحٍ كامل التفاصيل ، عما دار البارحةَ في مأتم جارنا العجوز من أمور . حيث تسرد بالتفصيل مدى حمق تلك " الجرباء " – على حد تعبيرها – عجوز عيت "الزروق" . ومدى بلاهتها وتعجرفها وتبجحها بمهر ابنة أختها الثمين ، وبرهنت لي أمي على صحة رأيها بمثـلٍ أسمعه للمرة الأولى :
- (( القوبة تزَّاين بشعر بنت خالتها ))
كما تناولت بالنقد كيفية إعداد الشاي الذي " ماتقدر تذوقه " في ذلك المأتم على نحوٍ لم تكن راضيةً عنه ولاموافقةً عليه .. وأنا أمام هذا السيل من الإنتقادات والتحليلات ، لاأملك إلا أن أستمع لا بل أن أبدي تأييدي لملاحظاتها حتى لا يطول مسار الحديث .. وبصعوبة .. استطعت بشيء من اللباقة أن أنسحب من ذاك الحوار بأن أقحمت فيه طرفاً ثالثاً هو شقيقي الذي أفاق لتوه من النوم واضعاً المنشفة على كتفه ولم يشطف وجهه بعد . حيث جعلتها بشكلٍ أو بآخر تتوجه بالحديث إليه لأخرج أنا مسرعاً وأستقل سيارتي متوجهاً إلى العمل .
( 2 )
شيئاً فشيئاً ، اقتربت بسيارتي من ذلك الرجل الواقف على جانب الطريق . وكلما اقتربت منه ، كلما تبين لي أكثر وأكثر بأنه أبداً ليس بالمألوف كما اعتقدت للوهلة الأولى . بل على العكس كان يبدو كلما اقتربت منه ، أكثر غرابةً وسطَ كلِ هذا الصخب . ردَّدت بيني وبين نفسي :
- ياإلهي .. من هذا الذي يجرؤ على الوقوف ههنا في مثل هذا الجو العاصف ..
خففت من سرعة السيارة التي لم تكن مسرعةً أصلاً بسبب غزارة المطر . وبمجرد أن وقفت بجانبه ، ارتمى على مقعد السيارة في لمح البصر مفلتاً من البرد والصقيع كأنما يفلت من براثن وحشٍ كاسر .
- صباح الخير ..
وجَّه ناظريه إليَّ وأطلق هذه العبارة مع سحابة كثيفة من البخار ، مختلطةً مع سحابةٍ أخرى لاتقل عنها كثافةً من التبغ . فرددت بدوري التحية وأنا بالكاد أميز ملامح وجهه وسط تلك السحابة البيضاء . كان رث الملابس ، تبدو عليه أمارات العوز . سروال مهتريء من الكتان الأصفر ، كنـزةٌ من الصوف انفرط نسيجها حتى بدت مثل كومة قش . ويمكن – بعد جهد جهيد – تمييز أن لونها يميل إلى الزرقة ، ولكن الغريب أنه كان ينتعل حذاءً جديداً جميلاً يشكل مع جملة ما يرتديه نشازاً ، تماماً مثل لوحة تجريدية تجمع كل النقائض في إطار واحد . ويبدو من رأسه الأشيب وتجاعيد وجهه التي بدأت تتضح بالتدريج مع انقشاع سحابة التبغ والبخار ، أنه ربما قد تجاوز الستين .. وفي محاولة مني لأن أفتح معه حديثاً يكسر ذلك الصمت المحرج الذي يسود اللقاءات دائماً عندما لا تريده ، رأيت أن أسأله عن اسمه ، لعلي أستنبط من إجابته شيئاً يدلني على ماهية هذا الرجل الذي لم أشكَّ للحظةٍ منذ أن نظر إلىَ بعينيه المغرورقـتين بأنه لغزٌ كبير . سألته :
- من أنت ياسيِّد ؟
فأجاب بعد أن سحب نفساً طويلاً من لفافة التبغ المبللة ، ثم نفثه بطريقةٍ تنم عن أسىً وحزنٍ كبيرين :
- إن كنت تسأل عما يجب أن أكون عليه فأنا كل شيء تقريباً ، أما إن كنت تسأل عن واقعي فأنا لاشيء ..
ثم أشاح بوجهه عني ناظراً عبر النافذة الزجاجية على يمينه ، وبالرغم من أن زجاج النافذة كان معتماً لايكاد يشِف عن شيءٍ بسبب ما تلبد عليه من بخار ، إلا أنه أطال وأمعن النظر من خلاله وكأنه يرى من خلاله الدنيا بأسرها .. تساءلت بيني وبين نفسي ثانيةً :
- رباه .. من هذا الذي ابتليت به في هذا الصباح ؟
ثم دارت في خلدي تساؤلات :
- أسأله من أنت ؟ فيجيب بكلمات كأنها الشعرُ أو الفلسفةُ أو شيءٌ من تمتمة الكهان والسحرة، ترى هل هو مجنون ؟ لعمري ما أظنه إلا أفلاطون هذا الزمان.
لكنني توصلت بعد تفكيرٍ لم يدم طويلاً ، إلى أن هذا الرجل ليس بالرجل العادي كائناً من كان . وعاد الصمت من جديد ..
( 3 )
... عبر الطريق ، كنت أسارقه النظر بين الفينة والفينة . ومع كل نظرةٍ يزيد الرجل في عينيَّ هيبةً وجلالاً وإبهاماً في آنٍ معاً .. مع كل نظرةٍ منه إلىَّ أو مني إليه ، ترتسم علامات الإستفهام والتعجبِ ، بل وحتى النقاطُ والفواصلُ وكل علامات الترقيم .. من هذا ..؟ أشبحٌ هو .؟ لابد أنه شبح .. أمعقول هذا ..؟ ولكن لم يمر بي يوماً أن الأشباح تظهر في النهار .. تملكتني الحيرة .. توترت .. أفكارٌ سخيفةٌ بدأت تراودني وأخرى مرعبة .. وهو يرمقني كل قليلٍ بذات العينين المغرورقتين وتعلو وجهه ابتسامةٌ هي أقرب ما تكون إلى ابتسامة الشماتة ، أجل .. تبدو عليه الشماتةُ ، وكأنه لاحظ مدى ارتباكي وتوتري ..
وكما هي عادتي في كثيرٍ من الأحيان ، أردت أن أتحاذق وأتذاكى وأن أظهر مدى تماسكي وسيطرتي على الأوضاع . وذلك بأن مددت يدي إلى منفضة السجائر لأسحبها كنوعٍ من الدبلوماسية و" الإيتيكيت " ، حتى يتسنى له إطفاء عقب سيجارته فيها . والواقع أنني ما فعلت ذلك إلا لمجرد أني أردت أن أظهر بمظهر الواثق الذي لايعيره اهتماماً ، ولأخفي ما بات جلياً أنه بدا عليَّ من التوتر والإرتباك . وفجأةً ، وأثناء ذلك ، انطلق بقربي انفجارٌ مدوٍ ارتعدت له فرائصي وكدت معه أن أفقد السيطرة على عجلة القيادة .. فضلاً عن فقدان السيطرة على الأوضاع كما حاولت أن أظهر . لأكتشف بعد ثانية واحدة ، أن الإنفجار ما كان إلا سعلةً قوية انطلقت من صدر العجوز القابع بجواري .
وبعد أن استقرت سيارتي المترنحة على الطريق من جديد ، نطق الرجل الكهل بصوتٍ رخيمٍ :
- لاتخف يا أستاذ .. خذ حذرك ..
ثم ابتسم ذات الإبتسامة الشامتة . وسرعان ما اكتشفت أيضاً أن سعلته تلك كانت زائفةً ومفتعلة ، وأن غرضه منها كان إفزاعي والسخرية مني ومن تحاذقي ..عندها ، شعرت بخليطٍ من النقمة وخيبة الأمل في الوقت ذاته . ثم قلت لنفسي :
- لاعليك ياهذا هديء من روعك ، إن هذا الرجل هو كأي رجل ، كل ما في الأمر أنك منفعلٌ ومضطربٌ قليلاً ربما لأنك صحوت باكراً ولم تنل قسطاً وافراً من النوم ..
استجمعت قواي وبقيةً من رباطة جأشي .. تنحنحت .. وزمَمْتُ شفتيَّ بشيءٍ من الإستعلاء في محاولةٍ بائسة للتظاهر باللامبالاة . سألته :
- إذاً لابد أنك ذاهب للعمل .. ما عملك يا حاج ؟
فأتى الجواب أكثر غرابةً وإ بـهاماً من الجواب الأول ، حيث قطب ملياً ثم أطرق وقال :
- صناعة البشر ..!!
.. سمَّرني جوابه في مقعدي من الإرتباك .. لولا أنه أردف :
- لالا .. أستغفر الله ، صناعة البشر هي بيد الله وحده .. بل عملي هو صياغة البشر ، أجل صياغة البشر .. وليس من المستبعد أن تكون أنت ممن صُغتهم ذات يوم ..!!
وهي هي ، ذات الإبتسامة الشامتة تعلو محياه من جديد . وهو هو ، ذات الشعور المختلط من النقمة وخيبة الأمل يملأني ويغوص فيَّ حتى النخاع . تمنيت أن تنتهي الطريق بسرعةٍ أو أن تتحول السيارة إلى صاروخٍ يصلُ بي في ثانية واحدة إلى حيث يريد هذا العجوز البغيض ، عسى أن أتخلص منه إلى الأبد . تصاعد في صدري الشعور بالحنق والغضب .. الدم يغلي في رأسي .. أكاد أسمعه يغلي .. رحت أتخيل أنني ممسكٌ بتلابيب هذا الشبحِ " أعني الرجلَ " وأقذف به خارج السيارة وأدهسه بعجلاتها . غمرتني هذه التهيؤات بنوعٍ من تنفيس شحنة الغيظ والشعور بالتشفِّي ، مما دفعني لأن أتخيل أبعد من ذلك . حيث رحت أتخيل أنني أشده من كلتا أذنيه وأسدد له ضربةً من ركبتي إلى أسفل بطنه كما في أفلام " الكاوبوي " ، وأنني أكيل له اللكمات .. والصفعات .. والركلات .. ثم ..
... ثم أفقت من تهيؤاتي وتخيلاتي على صدى صوت بوق السيارة ، حيث يبدو أنني سددت لكمةً إلى الزر الذي يشغله فوق المقود ، أثناء استغراقي في تلك المعركة الإفتراضية ، بدلاً من تسديدها لأسفل بطن العجوز..! وهنا ، نظرت إلى الشبح "عفواً إلى الرجل" فإذا به هذه المرةَ يضحك ملء فمه وهو يقول :
- إهدأ يا رجل فأنا لم أكذب عليك في شيءٍ صدقني . أنا كلُ شيءٍ حقيقةً ، وأنا لاشيءَ واقعاً وثق أن عملي هو صياغة البشر ، تشكيل البشر ..
قالها ضاحكاً بعاطفةٍ جياشةٍ ، تخلى فيها عن إبداء روح السخرية والشماتة ، وكأنه أشفق عليَّ مما أنا فيه . وأضاف راغباً في طمأنتي :
- سنصل قريباً إلى مقر عملي ..
.. شعرتُ بنوعِ ارتياحٍ وهدوء .. إرتياحٌ وهدوء دفعاني إلى التذاكي من جديد ، وإنما بيني وبين نفسي هذه المرة وليس أمام الرجل ، فمن الواضح أن نتيجة التذاكي على هذا الرجل معروفةٌ سلفاً . أردت التذاكي بيني وبين نفسي فطفقت أهمس :
- إن إنساناً من هذا النوع قادرٌ على أن يتلاعب بانفعالاتي ومشاعري وردود أفعالي كيفما يشاء ، يثيرني مرةً ، ويُفزعني أخرى ، ويحيرني الثالثةَ ، ثم يعود ليُهدأني ويطمأنني ويبعث فيَّ شعوراً من الحميمية مرةً رابعة ، إنسانٌ من هذا النوع ، لابد أنه طبيبٌ نفسي ، فهم وحدهم الأطباء النفسانيون هم القادرون على مثل هذا . كما أنهم عادةً يبدون غريبي الأطوار كما هي حالُ هذا الرجل . غير أن علامات الإستفهام والتعجب الأولى عادت لترتسم أمام ناظريَّ من جديد . إذ كيف يكون الطبيب النفسي هو كل شيءٍ حقيقةً ، ولا شيءَ في الواقع ؟ بل كيف يصوغُ الأطباء النفسانيون البشرَ ويعيدون تشكيلهم ؟ ثم إن الأطباء هنا معروفون ، وهم عادةً ميسورو الحال وفي رغدٍ من العيش ، وليس كما يظهر هذا العجوز .
عجوز؟! .. حقاً .. ولكنه رجلٌ عظيم ، نعم عظيم .. هذا ما اقتنعت به من الصميم وعلى الرغم من كل شيء .. أياً كانت ماهية هذا العجوز وأياً كانت وظيفته أو مهنته فلا ريب أبداً أنه رجلٌ غير عادي .. سواءٌ كان مجنوناً أم طبيباً أم ساحراً أم شبحاً أم أي شيء .. المهم هو عظيم .. ولقد كان الرجل صادقاً . فمقر عمله لم يكن بالفعل بعيداً .. إذ ما هي إلا مسافةٌ قصيرةٌ حتى أشار إليَّ بيده أن توقف ، فتوقفت .. التفتَ الشبحُ - أعني الرجلَ - ناحيتي وهو يفتح باب السيارة قائلاً :
- أعذرني إن كنت قد أزعجتك بغموضي وغرابتي ، فهذا أمرٌ يقول الناس أنه صفةٌ ملازمةٌ لي .. شكراً على كل شيء ..
ومدَّ إليَّ يده ليصافحني .. فشددت على أنامله النحيلة بحرارة . حرارة من يشد على أنامل رجل عظيمٍ بكل المقاييس .
أغلق باب السيارة وراءه ، وبقيت أنا داخل السيارة مأخوذاً . أنظر إليه وهو يمضي بخطوات ثابتةٍ ملؤها الثقة .. دخل إلى مقر عمله .. وعند هذه اللحظة بالذات ، أيقنت فعلاً وبما لا يدع مجالاً لأي شكٍ ، أن ذلك الشبح الرجل ، أو الرجل الشبح ، هو كل شيءٍ في الحقيقة ، وأيقنت كذلك أنه وبكل أسـفٍ وبـكل مرارةٍ وحرقة ، لا شيءَ في الواقع الذي نحياه . أيقنت أيضاً أنه هو ، وهو لوحده ، من صاغني ، وأعاد تشكيلي ، كما صاغ وأعاد تشكيل كل الآخرين ..! أيقنت كل هذا بمجرد أن دخل ذلك الشبحُ إلى مقر عمله .. حيث لم يكن مقر عمله ذاك سوى مدرسةٍ ابتدائيةٍ متشققةِ الجدران .. وحيث لم يكن ذلك الشبح إلا معلماً من الرعيل الأول ..!؟
الاثنين، 8 نوفمبر 2010
الإسم الرباعي .. خواطر متداخلة .
بقلم / عبدالله الشلماني
بالأمس كنت ألاعب طفلي الأول (رياض) والذي لم يبلغ الشهر الثالث من عمره بعد .. أناغيه وأضاحكه وأحتضنه وألثمه .. ولست أدري كيف تداعت في أثناء ذلك إلى مخيلتي خواطر كثيرة ، تداخل بعضها في بعض بشكل تسلسلي ، فكانت نتيجة ذلك كله أنني كتبت هذه " التدوينة " المتواضعة .. نظرت إلى رياض ثم إلى نفسي وقلت :
- ( رياض عبدالله ) .. صورتان ماثلتان لشخصين ينتمي أولهما إلى ثانيهما ..
تذكرت على الفور صورة أبي رحمة الله عليه .. ثم صورة جدي رحمة الله عليه ، والذي لم أر منه سوى صورته حيث توفي قبل ولادتي بثلاث سنوات .. ذهبت الخواطر إلى أبعد من ذلك .. تساءلت :
- ماذا لو امتلكت صوراً بعدد أجدادي واحداً تلو الآخر ؟ أو بالأحرى واحداً قبل الآخر ؟ .. حتى أصل إلى أبينا آدم عليه السلام .. أبو البشر جميعاً .. ترى كم من الصور يجب أن يكون بحوزتي حتى أصل إلى آدم عليه السلام ؟ خمسون ؟ سبعون ؟ مائة ؟ مائتان ؟ لست أدري ..
خطر ببالي حينها سؤال رائع .. أعني أن ما أوصلني إليه ذلك السؤال كان رائعاً .. قلت :
- لو أنني التقيت صينياً أو ألمانياً أو سينيغالياً أو أميريكياً أو حتى إسرائيلياً .. في أية صورة من طابور الصور التي بحوزتي – أو التي تخيلت أنها بحوزتي – يمكن أن نجتمع أنا وهو ، فيلتئم نسبي بنسبه من صاحب تلك الصورة فصاعداً إلى آدم عليه السلام ؟ وبالمناسبة .. فأنا أعرف على وجه اليقين صاحب الصورة التي أجتمع فيها أنا والإسرائيلي فصاعداً إلى آدم .. إنه إبراهيم عليه السلام .. وفوراً تذكرت فلسطين وغزة والجولان .. ابتسمت ابتسامة المحبط متسائلاً ومتعجباً :
- يالها من صلة رحم متينة تلك التي نلقاها على أيدي بني عمومتنا ..
لكن ذلك لا يلغي أنني والبشر جميعاً إخوة في النسب .. أقارب .. أسرة واحدة .. إن ما بيني وبينهم من الرحم والقرابة لا يختلف في شئ عما بيني وبين ( رياض ) إلا في عدد الصور التي تفصل بيني أنا وأي واحد منهم وبين صاحب صورة يلتئم نسبنا عنده .. إذاً كيف يقتل بعضنا بعضاً ؟ لماذا نرى سكان شمال الكرة الأرضية أكثر ثراءً على حساب سكان جنوبها ؟ لم يعتبر الإسرائيليون أنفسهم شعب الله المختار دون غيرهم ؟ لم يتجبر الحاكم على المحكوم ؟ ويسحق القوي الضعيف ؟
المهم .. يبدو من الواضح أن الأسئلة في هذا الإتجاه لن يكون لها آخر .. والمهم ايضاً أنني ورياض على الأقل لازلنا نحب بعضنا .. إنه امتدادي في هذا العالم .. وأنا امتداد أبي وجدي .. أنا همزة الوصل بين رياض وبين محمد صالح .. خلقنا الله من هذا التراب وإليه سوف نعود .. مات جدي .. ومات أبي .. وسأموت أنا ورياض .. وكل ما سيبقى من أي واحد فينا هو فقط عمله الصالح .. بصمته الخيّرة على هذه الأرض .. وليس أي شئ آخر .. وأخيراً أفقت من هذه الخواطر منتبهاً إلى أن طفلي رياض لم يعد يتحرك في حجري .. رياض ! يا رياض !! هل نمت يا رياض !؟ لقد نام حبيبي رياض في حجري ..
إلى اللقاء ..
الأربعاء، 20 أكتوبر 2010
مذكرات راقد ريح
بقلم / عبدالله الشلماني ..
يقال في أحد أمثال العرب أن بعيراً حُمل من الأثقال التي تزن مئات ( الكيلوغرامات ) على ظهره مالم يعد قادراً معه على حمل أي شيءٍ ولو ( ملليغراماً ) واحداً .. وبالفعل ، فقد انهار البعير وتهاوى إلى الأرض ، عندما أضاف صاحبه " قشةً " واحدة على الأثقال التي يحملها ، معتقداً أن قشةً صغيرةً لن تؤثر في جملٍ عملاق ، وغافلاً عن أن هذه "القشة" – على تفاهة وزنها قياساً إلى الأثقال – هي التي ستقصم ظهر البعير .. وصار الناس بعد هذه القصة يمثلون للأمر التافه عندما تتم المبالغة في ردة الفعل حياله ، وتحديداً حين انتفاء امكانية تحمل المزيد ، بأنه : ( القشة التي قصمت ظهر البعير ) ..
ما دفع بي إلى سرد قصة هذا المثل هو أن ظهري أنا أيضاً قد انقصم .. ليس نتيجةً لقشة أضيفت إلى ما أحمله عليه .. وإنما نتيجة لشبشب (حذاء) سرق مني عند باب المسجد حين خروجي منه بعد الصلاة .. فكانت ردة الفعل حيال ضياعه مني لا تتناسب مع قيمة الدينار والنصف التي هي ثمنه لو كان جديداً ، فما بالك وعمر الشبشب الذي أعنيه يتجاوز يوم أن ضاع مني الثلاثة أعوام .. لابد وأنكم الآن ترغبون في معرفة حكايتي .. حسناً .. إذاً فإليكم التفاصيل من البداية :
المصلون يخرجون من الباب تباعاً بعد انقضاء الصلاة .. شفاههم تتمتم بأدعية الخروج من المسجد .. أغلبهم يهمسون قائلين :
- " الحمد لله الذي هدانا لهذا " ..
أغلب الوجوه تبدو عليها السكينة والراحة النفسية عقب مناجاة الخالق سبحانه .. وكذلك كنت أنا عند خروجي معهم ووقوفي في طابور الزحام على الأحذية عند الباب .. أتمتم معهم مسبلاً أجفاني بطمأنينة ، ومحاولاً نسيان وتجاوز الهموم التي انهالت على رأسي منذ صحوت عند الصباح هامساً :
- " الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه " ..
لكن سرعان ما انقلب الأمر بالنسبة لي إلى العكس تماماً .. من الطمأنينة التي حاولت اصطناعها إلى نوبة غضب عارمة .. الجميع يأخذون أحذيتهم الأول فالأول وينصرفون ما عداي أنا ، فقد ظللت "أنقب" في كومة الأحذية عند الباب مجتهداً في الكشف عن "الشبشب" البلاستيكي المهتريء الذي كنت أنتعله عند دخولي المسجد ، دون جدوى .. أفتش مرة ثانية وثالثة وعاشرة .. لاجدوى .. شككت في كوني دخلت من هذا الباب .. هرعت إلى الباب الآخر للمسجد من الجهة المقابلة ، لأواجه المصير ذاته .. أنقب "كالجربوع" في أكوام الأحذية والصنادل باحثاً عن كنزي الثمين .. لا فائدة .. الناس يرمقونني بنظرات تحمل معاني كثيرة .. لعل أحدها أنني "معتوه" .. هكذا بدت لي نظراتهم فزادني ذلك حنقاً على حنقي وغضباً إلى غضبي .. بدأت أزمجر والشرر يتطاير من عينيَّ كما لو أنني سمعت للتو نبأ احتلال المسجد الأقصى ! :
- الويل لمن سرق "الشبشب" .. قليل الأدب .. عديم التربية .. ليظهر نفسه فقط ثم لينظر ماذا سيحل به على يديَّ هاتين .. " والله نعطبها على خشمه " .
الناس يتجمَّعون من حولي وينظرون إليَّ بشفقة واضحة .. ربما اعتقدوا أن حذائي المفقود هو من تلك الأنواع الفاخرة التي تصنع من جلود النمور والتماسيح ، والتي تبلغ أثمانها مئات الدولارات .. كثرة الجمهور من حول المرء ربما أعطته الدافع أحياناً للمزيد من استعراض القدرات الخطابية .. شعرت لوهلة أنني أحتاج لتنفيس شحنة المرارة المتراكمة عندي منذ الصباح ، أكثر من كوني غاضب لأجل ضياع الشبشب .. أخذ الدم يغلي في عروقي والغيظ يتصاعد إلى رأسي .. مما حدا بي لإلقاء المزيد من العبارات والتصريحات النارية قائلاً لمن حولي :
- أنتم جميعاً تشتركون في "كارثة" ضياع الشبشب .. لاتنظروا إليَّ هكذا .. أجل .. كلكم مذنبون .. هذا هو الشعب الليبي .. السلبية والسلبية فقط هي كل ما يجيد فعله حيال قضايا السلب والنهب المنظم لمقدرات الدولة والمجتمع .. الذي يفرط في "شبشب" سيفرط في ما هو أكبر .. لكن الكلام مع أمثالكم عبث لا طائل من ورائه إلا اللهاث والعطش وجفاف الحلق .. هل أنتم أناس تستحقون أن تعيشوا على هذا الكوكب؟.. أشك في ذلك .. هذا اللص اللعين الذي سرق الشبشب هو مواطن اعتدى عل حقوق مواطن آخر .. إنه غياب القانون .. نعم غياب القانووووووون .. يا ناس .. ياااااااااااعالم .. تعلموا من أمم الأرض الأخرى كيف يكون التعامل باحترام مع حقوق الآخرين ..
في أثناء هذا الخطاب الساخن نمى إلى مسامعي بعض همهمات مكبوتة ، كانت عبارة عن ضحكات حاول أصحابها كتمانها لئلا أسمعهم .. متسائلين عن العلاقة بين الشبشب وبين ما يسمعون .. لم أعرهم اهتماماً .. تجاهلتهم .. على المرء إذا أراد أن يحقق هدفاً ألا ينتبه إلى التوافه من الشواغل .. استأنفت الخطاب من جديد ، محاولاً بيان رأيي فيما يحدث على الساحة الدولية من تجاذبات سياسية حول قضايا حرية التنقل والعمل والتملك .. ولا أدري حتى الآن ما علاقة ذلك بالشبشب الذي ضاع ، استأنفت الخطاب لمن حولي صارخاً :
- أيها الناس ..!!
أحد ما خلفي يجذبني من طرف سترتي فأحاول التملص منه ، معتقداً أنه يريد إجهاض انطلاقتي .. لأستأنف الخطاب :
- أيها الليبيون !!
يجذبني نفس الشخص ثانية بقوة هذه المرة .. وعندما استدرت نحوه ، فإذا به رجل عجوز تبدو على ملامحه أمارات الخوف والإعتذار ، وهو يحمل الشبشب الذي أشعل عندي فتيل هذه الثورة العارمة من الغضب .. ليقول لي :
- سامحني يا أستاذ .. أردت الوضوء ولم أجد نعلا بلاستيكياً سوى هذا ..!!
تسمَّرت قدماي بالأرض خجلاً ..في حين أخذ الناس ينفضون من حولي مرددين "لاحول ولا قوة إلا بالله" .. وكان من بين ما سمعته عند انصرافهم من التعليقات :
- " شوف هالنهار اللي دايره في روحه .. علشان دينار ونص .. أنعن مرض ! " ..
أطرقت برأسي متأملاً .. لم يعرف هؤلاء المساكين أنني أزمجر ليس لأجل الشبشب ذي الدينار والنصف .. بقدر ما أفعل ذلك لأجل مايزيد عن خمسة آلاف دينار حرمتني وأمي من الذهاب للحج ، فقد علمت هذا الصباح أن الدولة فرضتها قسراً على من أراد الحج هذا العام ..!؟
السبت، 16 أكتوبر 2010
لنتسامح .. لنسمو .. ( دعوة إلى الحب ) ..
من قلبٍ محبٍ صادق إلى قلوب إخوةٍ وأخواتٍ لهم في في ذلك القلب المكانة والمنزلة التي لا يعلم علوَّها وسموَّها إلا الله ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، ثم أما بعد : فإنني أتوجه أنا العبد الفقير كاتب هذه الكلمات ومنضد هذه السطور المتواضعة ، إلى قلوبكم الصافية النقية قبل آذانكم وأسماعكم ، وإلى عواطفكم ومشاعركم وأحاسيسكم الرقيقة والعذبة ، قبل عقولكم وتفكيركم واتجاهاتكم وقتاعاتكم ..باسم خفقات الفرح في وجدانكم عند أوبة غائبٍ لكم من سفرٍ بعيد ،وباسم ضحكات البراءة المشرقة على شفاه أطفالكم عند ارتدائهم في صباح العيد للحلل الجديدة .وباسم ما تبوح به نظراتكم من آلاف الكلمات والقصائد والمعاني عند لحظات الصفاء والحميمية والوجد ، بينكم وبين من تألفون من الأحباب والإخوان .أتوجه إليكم باسم كل دعوة خيرٍ ليس بينها وبين الله حجابٌ تصدر من أعماق روح أمٍ حنونٍ أو أبٍ شفيق . وكل همسة ودٍ تشي بها ابتسامةٌ لكم في وجه إنسان لا تبتغون من وراء حبه ووصله إلا رضا الله رب العالمين ..باسم كل نفحةِ عطرٍ من زهرةٍ زرعتموها في أفنية بيوتكم العامرة بالحب والخير وتقوى اللطيف الرؤوف سبحانه ، بيوتكم المؤمنة الدافئة الرائعة ، التي ضربت للعالم عبر العصور والأزمنة - عندما كنا ( ذات يوم ) خير أمة أخرجت للناس - الأمثلة العليا والراقية في التسامح والتعاضد والتكاتف والحب والإخاء عند كل النوازل وفي مختلف الظروف ..أتوجه إليكم وأدعوكم باسم كل ما ذكرت من المعاني وباسم كل ما لم أذكر ، أن تتخذوا يا أحبتي من الغد الآتي نقطة بدايةٍ تغيرون ابتداءً منها حياتكم إلى الأفضل والأنقى والأروع . أن تنبذوا ما كان قد شجر بينكم من خلافات كان سببها الشيطان الرجيم ، وترموها وراء ظهوركم .. أن تجعلوا من التسامح وطهر النوايا شعار أيامنا القادمة .. ومن الإبتسامة عنوان مستقبل العلاقات بيننا وبين من كنا معهم على خلافٍ وشقاق .. ولنتذكر قول سيد الكائنات بأبي هو وأمي ، عندما وقف أمام من عذبوه وآذوه وظلموه وأخرجوه ، فسألهم : ما تظنون أني فاعلٌ بكم ؟ ثم تركها كلمةً من بعده بها يهتدي بنو ( الإنسان ) إلى منابع الطهر والنقاء والصفاء , قائلاً عليه أشرف الصلاة وأتم التسليم : ( إذهبوا فأنتم الطلقاء ) .. قولوها لكل من أساء إليكم يا أحبتي .. قولوا : إذهب فقد صفحنا وعفونا وغفرنا ..
الأحد، 23 مايو 2010
من أزمات الخطاب الإسلامي المعاصر
إنه مما يبعث على السرور والإنشراح ذلك الإنتعاش الذي شهده الإعلام الإسلامي على صعيد الفضائيات المرئية العربية وذلك على مدى السنوات القلائل الأخيرة . لأنه ربما قد يمثل دليلاً ملموساً على انتشار الصحوة الدينية – إن جاز التعبير – بين أوساط الأمة على مختلف أطيافها ، مما أدى بالنتيجة إلى انعكاسها على الإعلام ذاته . غير أن تلك الفضائيات والمنابر الإعلامية الإسلامية أو ذات التوجه الإسلامي بمعنى أدق ، لاتزال تعاني من قصور واضح يعتري آليات عملها وما تنتهجه من سياسات ومن خطاب . ومن غير المعروف ما إذا كان ذلك بسبب قلة الخبرة الناتجة عن حداثة العهد بالعمل الإعلامي الإسلامي ، أم بسبب غياب الإختصاص عند القائمين على تلك المنابر ، أم أن ذلك القصور ناتج عن أسباب أخرى نجهلها من غير المستبعد أن تكون أيدٍ خفيةً ومنطلقةً من نوايا مبيتةٍ هي التي تقف وراءها . ولكي نفلت من فخ الحديث في العموميات ولكي نكون أكثر عمليةً وواقعيةً في طرحنا ، سوف نسوق مثالاً بسيطاً يميط اللثام عما أردنا أن نشير إليه من خلل في تلك الفضائيات الإسلامية ، ألا وهو : (( عدم مراعاة الفوارق في الثقافة والتكوين المعرفي والعلمي والقدرات والملكات الفردية والشخصية بين جمهور المتلقين من المشاهدين )) . وذلك عندما يظهر على شاشة ( س ) أو ( ص ) الفضائية الإسلامية برنامج حواري هو أشبه بمناظرة علمية متخصصة - على غرار ما كان معمولاً به في القرون الأولى من عصر الإسلام ، حينما كان علماء الأمة ينهضون للذود عن صحيح الدين ، عند بداية ظهور الفرق والنحل والجماعات وانتشار الضلالات – فنرى على تلك الفضائية الإسلامية عدداً من العلماء أو الدعاة أو المثقفين ، يتناولون موضوعاً خلافياً شائكاً ومعقداً تختلف فيه وجهات النظر وتتباين فيه آراء العلماء والفقهاء تبايناً حاداً ويكتسي طابعاً ذا حساسية مفرطة . مثل الخوض في موضوع ( التشيُّع ) عند الشيعة ، أو مثل موضوع ( العلاج بالقرآن الكريم ) فيما يتعلق بالسحر والمس وغيره ، أو مثل موضوع ( التصوف ) ومدارسه ومشائخه وطرقه ، أو ما شابه ذلك . وهنا يجدر بنا التنويه إلى أننا لاننكر أهمية ما يتم تناوله , خصوصاً إذا ما تم التطرق إلى أوجه الزيف والبطلان والغلو والمبالغة في أيٍ مما ذكر من مواضيع . ولكن مبعث الإعتراض ، هو أن يتم التركيز على السلبيات وتسليط الأضواء عليها دون ذكر المزايا والإيجابيات ، إنطلاقاً من تصور مسبق مفاده أن المشاهد أو المتلقي هو على دراية كافية وثقافة رصينة تؤهله لأن يميز بين الغث والسمين ، وبأنه ليس هناك داعٍ لتناول الإيجابيات التي لاشك بأن المشاهد أو المتلقي يعرفها – من وجهة نظرهم طبعاً - بقدر ما هناك داعٍ للتطرق إلى السلبيات التي يتوجب عليه الحذر منها . وهذا ولاشك ، زللٌ خطيرٌ وخطاٌ فادحٌ وكبير ، تقع فيه الفضائيات الإسلامية ، عندما تعالج تلك القضايا المهمة والساخنة بهذه السطحية واللامهنية ، ومكمن الزلل والخطورة في ذلك هو أنه ليس كل مشاهدٍ يمكن اعتباره مثقفاً أو متعلماً أويستطيع التمييز ، أو لايتأثر سلباً بالتركيز على كشف العيوب دون ذكر المميزات ، وخاصةً في دولنا العربية والإسلامية التي لاتزال الأمية ضاربةً أطنابـها في قطاعات واسعة من مجتمعاتها .
أذكر أنه منذ فترة ليست بالطويلة ظهر على إحدى الفضائيات ذات التوجه الإسلامي برنامجٌ على شاكلة ما ذكرنا ، يضع ( التصوف ) على طاولة الدرس والتشريح ، وصادف أن المتحدث باسم التصوف كان ضعيف الخطاب ظاهر العجز ، على العكس ممن يناظره . حيث كان الآخرُ مفوهاً ذا فصاحةٍ وبيان . فطفق ذاك الذي ينتقد التصوف يركز على فضح ضلالات الجهلاء ممن ينتسبون إلى التصوفِ . وذلك بعرض مخالفاتهم الشرعية وتصرفاتهم البدعية التي لاتمت للكتاب ولا للسنة بصلةٍ من الصلات . مما دفع بالمتحدث باسم التصوف لأن يقف موقف الدفاع ودرء التهم ، تماماً مثل أي شخصٍ يقف متلقياً الضربات والصفعات المنهالة عليه من كل الجهات ، وهو لايدري من أين ستأتيه الصفعة التالية ، إلى الدرجة التي يكاد يخرج معها من يشاهد المناظرة ، بفكرة مؤداها سوء وفساد منهج التصوف بالكلية . وهذا لعمري ظلم لمنهج التصوف - كما هو ظلم لغيره مما يطرح على هذا النحو من موضوعات – ما بعده ظلم . باعتبار أنه ليس من المنهجية العلمية أن تناقش الأمور والقضايا الحساسة بهذا التعميم والشمول لمجرد إمعان الطعن في الفكر الصوفي الصحيح الذي يرتكز - وفق ما ذهب إليه سلف الأمة – على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والذي يضرب عرض الحائط بكل ما خالفهما وناقض أحكامهما ، كمثل ما درج عليه السلف من أمثال ( الجنيد و الحسن البصري و عبدالله بن المبارك وإبراهيم بن أدهم وأبي مسلم الخولاني ومالك بن دينار وأبي سليمان الداراني بل والصحابة والتابعون والأئمة الأربعة وابن تيمية وابن القيم ) رحمهم الله تعالى جميعاً ، وغيرهم كثيرون ممن تبنوا مبدأ الزهد والتخفف من متاع الدنيا والإنصراف للعبادة والدعوة إلى الله رب العالمين سبحانه ..
مناط الظلم الذي ذكرنا لا يتعلق بمن هم على دراية واطلاع بما يتم تناوله مخافة أن يقعوا في لبس أو سوء فهم . وإنما يتعلق بأولـئك المتلقين من المشاهدين والمستمعين الأميين أو قليلي الإطلاع أو أنصاف المثقفين بالنظر إلى أنهم السواد الأعظم من الأمة مع كل أسف . ومن هنا ، ومن هذه النقطة بالذات , وقعت القناة الإسلامية في المحظور ، وأفسدت الأمور من حيث أرادت أن تصلحها . وبدلاً من إيضاح الحقيقة وتبيان تصرفات الغلاة والجهلاء وكشفها وتبرئة التصوف منها ، ساهمت القناة بطريقة مستترة وغير مباشرة , وبنية حسنة ( أو غير حسنة ) , في تجذير وترسيخ فكرة فساد معتقد عموم المتصوفة وانحراف منهجهم ..
وهذا أمر طالما حذر منه علماؤنا الكبار على مر العصور , حيث أوصوا بعدم الخوض في أمور قد لا يدركها العامة ، بل ربما سببت فيهم البلبلة والفتنة , في حين قد لا تستلزم فيه تلك الأمور كل هذه البلبلة , فيما لو اقتصرت مناقشتها بين أهل العلم وذوي الإختصاص . ولم يكن ذلك البرنامج سوى مجرد مثال عابر ، فمثله الكثير والكثير من البرامج التي تناولت خلاف ما تناوله ، ولكنها أدت إلى مثل ما أدى إليه . وإلا فمنهج الصوفية الحقيقيين رحمهم الله تعالى لم يكن يوماً بمعزلٍ عن الهجوم والإتهام ، ولاهو في الوقت ذاته بحاجة لمن هو مثلي لكي يدافع عنه . لأنه ببساطة منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان ، منهج كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ..
وأخيراً نقول بأن لكل حديث خلاصة . وخلاصة حديثنا أننا ننصح ونحذر أبناءنا وبناتنا من الشباب ، من قراءة أو سماع أو مشاهدة أو الإطلاع على أية ثقافات أو ديانات أو مذاهب أومدارس غريبة عنا ، ما لم يكن القاريء أو المشاهد أو المستمع ذا علمٍ كافٍ ومعرفة متينة بالأمر الذي هو بصدد مشاهدته أو الإطلاع عليه . خصوصاً فيما يتعلق بأمور العقيدة والتوحيد ، أو علم الكلام والفلسفة والماورائيات . كما أننا نتمنى من إخواننا القائمين على الصحافة والإعلام وعلى المواقع الألكترونية والقنوات الفضائية عامةً والإسلامية منها خاصة . أن يتفطنوا في مستقبل الأيام إلى ما نوهنا إليه .
الثلاثاء، 23 فبراير 2010
( موش قاعد ) بقلم / عبدالله الشلماني
( موش قاعد ) . لفظة طالما ترددت على أسماعنا كلما دخلنا على موظف من الموظفين لكي نتم معاملةً ما ، إلى الدرجة التي صرنا معها نستسيغ بكل بساطة هذه اللفظة دون أن تثير في ذواتنا أية انفعالات أو اعتراضات . وهي وللأسف الشديد - وإن كانت من حيث الشكل مجرد كلمة ليس إلا - تشكِّل مصطلحاً يختزل واقعاً متردياً وأزمة أخلاقٍ تعتصر قوام مجتمعنا النحيل أصلاً عن كل ما يدعو للتفاخر أو التباهي . وللأسف الشديد أيضاً أن مجتمعنا صار لا يجيد شيئاً مما قد يغير أو يصلح أو يرقى بهذا الواقع المتردي أكثر من مجرد الإنتقاد وتتبع مواطن الزلل وجلد الذات ، ولا أدلَّ على ذلك مما أفعله أنا الآن " كاتب هذه الأسطر " عندما أعجز عن كل شيءٍ سوى الكلام !. ( موش قاعد ) ، كم صفعت هذه الكلمة من مواطنٍ مسكينٍ ربما كان - أو كانت - عجوزاً بائساً جاء من مسافةٍ تتجاوز عشرات الكيلومترات وهو يلوِّح للسيارات أو يستأجرها في أحسن الأحوال ، لكي تحمله إلى حيث يفترض أن ينهي معاملته . ليفاجأ بأحدهم - أو إحداهن - وهو يسدد له هذه اللطمة وهو " متفقعص " بكل صفاقةٍ وصلف ؟. ( موش قاعد ) ، كم تحطم على أعتاب هذه الكلمة من حلمٍ لشابٍ مسحوق ، نهض منذ الساعات الأولى للصباح وهو يرنو لأن تكون خطواته المقبلة في اتجاه هذه الإدارة أو تلك فاتحة خيرٍ أو بارقة أملٍ لمستقبلٍ أفضل ؟. ( موش قاعد ) ، كم اطمأن لها من موظفٍ غائبٍ عن عمله وأمن من شر عقابها وعظم إثمها عند الله ، لمجرد أن رئيسه المباشر قد تواطأ معه وغض الطرف عن غيابه وتقصيره ، معتقداً أنه بذلك قد أفلت من المسؤولية أمام رب العالمين ؟. ( موش قاعد ) ، كم أثارت من تساؤل وأبكت من عينٍ وأضرمت من غيظٍ دار في خلد من سمعها وهو يخرج من ذلك المكتب هائماً على وجهه وهو يردد دعوةً ربما صادفت باباً مفتوحاً للسماء ليس بينها وبين الله حجاب قائلاً : " الله يخرب بيوتكم " ؟. فيا كل من قرأت هذه الكلمات وكنت على نحو ما فهمته منها ، تدارك نفسك قبل فوات الأوان ، فإن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل وذلك حتى تطلع الشمس من مغربها . واعلم أنك راعٍ في عملك ومسؤول عن رعيتك . وأنك مؤتمن فيما استخلفك الله فيه من قضاء حوائج الناس ، فضع أمامك دوماً قول الله تعالى : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) . وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي الذي رواه عن ربه جل وعلا : ( ياعبادي ، لقد حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّماً قلا تظالموا ) وأي ظلمٍ أشد من أن يفاجأ من شد إليك الرحال متجشماً الحر والصقيع والتعب والجوع لكي ينال حقه الذي استرعاك الله فيه فيقال له : ( موش قاعد ) ؟!!..
الجمعة، 22 يناير 2010
كاميرات تريد أن تطفيء نور الله
إنه مما يبعث على الفرح والسرور والبهجة ، هذه الظاهرة اللافتة من إنتشار القنوات المحتشمة ذات التوجهات التربوية والأخلاقية الملتزمة وصاحبة الفكر المعتدل الذي يتبنى الوسطية كأسلوب عملٍ وطريقة تفكير ومنهج حياة ، وإن كان في البعض منها من الهنات والقصور ما فيه ولكن يبقى القول أن عمل البشر لاينفك عن النقص ( والكمال لله وحده ) ، غير أنه من الملاحظ سواء في تلك القنوات أو في غيرها شيوع وانتشار المسلسلات التاريخية التي تتناول شخصيات الصحابة رضوان الله تعالى عنهم أجمعين ،والقادة العظماء من المجاهدين الفاتحين المسلمين ، وعلماء وفقهاء ودعاة ومجددي ثقافة وفكر الأمة على مختلف حقب وعصور الدولة الإسلامية ، والإعتراض على تلك المسلسلات والتمثيليات والأفلام ليس تناولها للشخصيات مجرداً في حد ذاته ، بل على تصويرها وطرحها لشخصيات أولئك العظماء من رموز أمتنا على نحوٍ لايليق بمكانتهم ولا بعظمتهم ولا بما يمثلونه من مُثُلٍ وقيمٍ رمزيةٍ سامية في قلوب الناس ، من حيث إضافةِ تفاصيل وجزئيات مغلوطة عادةً ما يعزوها القائمون على صنع تلك المسلسلات للضرورة ( الدرامية ) !! ، كالتركيز على سبيل المثال على النواحي العاطفية والغرامية المبالغ في ميوعتها ووقاحتها وانعدام حشمتها وعفتها والتي ( يفبركها ) ويخترعها صانعو المسلسل لكي يضفوا - حسب زعمهم – شيئاً من الواقعية والنزعة الإنسانية البحتة والمجردة على حياة تلك الشخصيات والرموز ، وكأنهم لا يعلمون أنهم بذلك يطبعون صورةً مشوهةً وبشعةً في أذهان الناس عن تلك القامات السامقة من الصحابة والقادة والعلماء والأعلام . ويزعزعون ثقة المشاهد ويزلزلونها في تلك الشخصية الرمز لكي تهتز صورتها وتتضائل قيمتها المعنوية والدلالية في قرارة نفس المشاهد وعقله الباطن . من خلال إظهارهم للشخصية على هيئة الإنسان العادي أو حتى الأدنى مرتبةً من العادي ، عبر إبرازها في إطار اتباع النزوات والإلتفات إلى السفاسف والإنشغال بتوافه الأمور دون عظائمها ، وأنا على يقين راسخ بأن وراء هذه التوجهات الإعلامية من الدسائس والأيدي والنوايا السوداء الخفية ما ورائها ، على اعتبار أن أمتنا تواجه اليوم هجمةً شرسةً على كافة الأصعدة والميادين ، وليست الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم أولها ولن تكون آخرها ، وربما سيقول البعض أن هذا الكلام هو تأثرٌ بنظرية المؤامرة وعقدة النقص والخوف من الآخر التي تصل إلى حد الوسواس ، لكنني أؤكد أن الأمر يتعدى ذلك بكثير ،وأن نظرية المؤامرة ورغم اعتراض البعض عليها وتبسيطهم لشأنها والإستهزاء بمن يقول بوجودها ،إلا أن ذلك لا يلغي أنها ماثلة للعيان بوجهها القبيح السافر ، الذي لا يخفى إلا على من يضع رأسه في الرمل كما يفعل النعام ،أو من يحاول في عبثٍ أن يخفي شعاع الشمس بالغربال في رابعة النهار ، لذلك علينا الحذر ياأعزائي في أي مكان تصل إليه هذه الكلمات ،من أن نتأثر سلباً بما تتركه في أذهاننا تلك المسلسلات التي تسيء لرسلنا أو لأئمتنا وعلمائنا وقادتنا ورموزنا من حيث تدري أو لا تدري وسواءً بسوء نيةٍ أو بحسنها ، وبما تترك في نفوس وذاكرة ووجدان أجيالنا الناشئة من آثار سلبية ومدمرة ، ومن تشويشٍ واضطرابٍ في المفاهيم والقناعات عن تلك الرموز ، وحبذا لو صرفنا النظر نحن وأبناؤنا عن مشاهدتها أصلاً إلا لمن أراد أن يتتبع مواطن الزلل والخلل فيها ليحذرها هو ويحذِّر منها غيره ، وأقول لمن يقوم على إنتاج وصنع تلك الدراميات المغرضة - إن وصل إليهم صوتي - ثوبوا إلى رشدكم ، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، ثوبوا إلى رشدكم ، يا من تريدون أن تطفئوا نور الله بأفواهكم وأقلامكم وعدسات كاميراتكم ، ويأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون والمنافقون والمندسون !!
السبت، 14 نوفمبر 2009
الساحة الثقافية بخير .. ولكنها تعج بالمتسلقين والأشباه !؟
حوار لـ ( صحيفة قورينا ) مع : عبدالله الشلماني
في عددها الصادر يوم الإثنين 3/8/2009 م
حاوره / جمال الخراز
أستاذ عبد الله الشلماني .. حدثنا عن بدايتك الشعرية لكي تكون مدخلا منطقيا لما سوف نسأله لاحقاً .
- البداية الشعرية ؟
بدايتي الشعرية كانت مبكرة إلى حد ما . ذلك أنني نشأت في أسرة تحب القراءة ولها مكتبة عامرة بالكتب ومن ضمنها دواوين الشعر فتولدت لدي محبة الشعر نتيجة لذلك .. وأول محاولاتي لنظم الشعر كانت في المرحلة الثانوية وهى لم تكن ناضجة بالتأكيد لكونها بداية لطالب قصير الباع وقليل الخبرة والتجربة .
ـ أيهما أقرب إليك الشعر أم القصة ؟
بصراحة ومع شغفي بالشعر كما ذكرت سابقاً إلا أنني أجد نفسي ميالاً للسرد عامة وللقصة على وجه التحديد . ذلك أنني أجدها وإلى حد ما تشبه القصيدة من حيث أنها تستفز الذهن والقريحة لاختزال المعاني والخواطر والأفكار في مساحة محدودة وعلى نحو إبداعي محكم .. لذلك تجدني مقلاً في الشعر على حساب القصة التي أجد نفسي وأثبت نفسي فيها أكثر من غيرها .. القصة كائن جميل .. نعم .. كائن جميل .. إنها مختصرة .. رشيقة .. كالحلم أو كالطيف .. يسري أمامك بسرعة ولكن يترك أثراً جميلاً . هكذا أراها .
ـ هل لديك ديوان مخطوط ؟
أما ديوان فلا .. لكن مجموعة قصصية نعم .. لدي مجموعة قصصية بعنوان " الجري في منطقة الظل " تقدمت بها لنشرها عبر مجلس الثقافة العام .. لكن يبدو أنها أهملت أو أنها لم تلق القبول والاستحسان من القائمين على المجلس .. على كل حال موضوع النشر في بلادنا موضوع شائك طالما تجنبت الحديث فيه لكي لا " يزعل " مني أحد !
- كيف ترى التعامل الأدبي مع المواقع الإلكترونية ؟
لقد كانت المواقع الإلكترونية هى الكوة التى يتنفس منها الكتاب والأدباء الشباب عبر جدار الإقصاء السميك الذي تفرضه عليهم مؤسسات الثقافة الرسمية . على الرغم من تحفظاتي على كثير من تلك المواقع من حيث أنها " لا ترد يد لامس " فتنشر الغث والسمين .. مما صارت معه السلعة الأدبية النفيسة تعرض جنباً إلى جنب مع" أشياء" مضحكة مما ذهب بكثير من بريقها ورونقها .
- كيف تري الساحة الثقافية في ليبيا ؟
الساحة الثقافية عندنا بخير .. لكن المقلق أنها تعج بالمتسلقين والأشباه .. وأنهم وبكل أسف هم من يمثل الساحة في كثير من تجلياتها .. وأنا لا أقصد هنا أحداً بعينه .. لكن عندما تأتي أنت لحضور مهرجان أو تظاهرة وتجلس لتستمع إلى المشاركات التى تم اختيارها دون غيرها سوف تعرف بالضبط ما الذي أعنيه .. وأعدك ـ لو كنت محباً للأدب ـ بأنك سوف تعود لبيتك مريضاً مصاباً بالصداع والاكتئاب .
- كيف تقيم تجربتك الصحفية ؟
لكن أعود فأقول يجب الانتظار لمدة أطول حتى أتمكن من تقييم التجربة بشكل أكثر نضجاً وموضوعيةً .
- ما هو أهم أعمالك الإذاعية المسموعة ؟
بحكم أنني نشأت في أسرة ريفية بدوية محافظة فإن روح المحافظة والكلاسيكية تملكتني إلى حد كبير .. وهذا ينعكس على أعمالي الإذاعية أيضاً ..فأنا أقدم برامج شرعية ودعوية عبر إذاعة المرج المحلية .. ولكن لا أعتبر أنها أهم أعمالي هناك .. حيث أرى بكل تواضع أنني " أبدعت " في برنامج اسمه ( حوار في قضية ) وذلك حسب ما يراه كثير من المستمعين أيضاً .
- لمن يقرأ الشلماني ؟
أنا أقرأ للجميع .. ولم يسبق أنني رفضت قراءة شيء بسبب اسم كاتبه فأنا لا أحكم على الكتابات من خلال أسماء كتابها .. وإنما أحكم على الكتاب من خلال نوعية كتاباتهم .. ولعل الصيغة الأنسب ـ من وجهة نظري لهذا السؤال هى : " لمن يحب أن يقرأ الشلماني " . وهنا أقول إنني أقرأ للعديدين على الساحة المحلية والعربية والدولية .. غير أنني وفي الآونة الأخيرة بدأت تركيز قراءاتي على تجربة الكتاب " الشباب " على الساحة المحلية .. تأثرت كثيراً بقراءاتي في أدب الصادق النيهوم مع تحفظاتي على كثير مما كتبه رحمه الله .. تأثرت كذلك بإبراهيم الكوني .. على مصطفي المصراتي .. أحمد يوسف عقيلة .. عبد الرسول العريبي .. وآخرون كثر .
- إطلاعك الديني العميق هل له تأثير على إنتاجك الأدبي ؟
سؤال مهم بارك الله فيك .. وأقول هنا أنه وبخلاف قول الكثيرين بأن الدين هو خلاف الإبداع ، فإن الدين هو أساس الإبداع لأن الإسلام " حب " .. والحب لا يحتاج مني لأن أشرحه للناس لكي يفهموا أنه جوهر الحياة كلها .. والفضيلة كلها .. والنقاء كله .
- من يعجبك من الكتاب الليبيين ؟
أنا أفخر بكل المبدعين الليبيين القدماء والمحدثين .. لكن ربما بسبب تشابه البيئة التى عشت فيها وعاش فيها " أحمد يوسف عقيلة " فإنني أقدمه على غيره مع حفظ الحب والاعتزاز بالجميع .
- أصعب موقف أدبي تعرضت له ؟
إنه يوم أن بعثت بإحدى كتاباتي لمطبوعة محلية فردوا في معرض تبرير رفضهم لنشرها أنني " نكرة على الساحة " دون أن يقرأوا ما كتبت ولو مجرد القراءة ..
" سامحهم الله " .
- هل تعرضت لسرقات أدبية ؟
على حد علمي إلى الآن ( لا ) .. ربما لأن كتاباتي ليست من الأهمية ولا من الإبداع بمكان ، لدرجة أن لصوص وقراصنة الأدب زهدوا فيها .
ـ أيهما أهم لديك : الفكرة أم القافية ؟
حبذا لو اجتمعتا معاً .. لكن لو أن حضور إحداهما لابد أن يكون على حساب الأخري فإنني أقدم " الفكرة " على أي شيء آخر .
ـ سؤال تود الإجابة عنه ولم نسأله ؟
ـ تمنيت لو أنك أخي جمال قد سألتني : " لماذا تكتب ؟ "
رغم أنني لا أملك الإجابة عنه .. وهناك إجابة تقفز إلى ذهني كلما سألت نفسي هذا السؤال وهى مرعبة ومزعجة ولا أتمنى أن تكون هى الحقيقة .. هل تعلم ما هى أخي جمال ؟ إنها " لكي أنال الشهرة " . أرجو ألا تكون هى الحقيقة .. رغم أهمية الشهرة وشرعيتها لمن يستحقها .. لكن لا أتمنى أن تكون هى الدافع عندي للكتابة ..
- ما هو جديدك ؟
مجموعة قصصية جديدة آمل أن تجد من يسعى معها لكي ترى النور .
ـ كلمة أخيرة ؟
شكراً جزيلاً لكم لقد كنتم أول من أهتم وأجرى مقابلة معي .. وهذا يعني لي الكثير وسيظل يعني لي الكثير . شكــــراً لكـــــم .
الجمعة، 13 نوفمبر 2009
مذكرات راقد ريح
( الخيبات المتناسلة )
كلمة " باتي " في لهجتنا الدارجة بشمال شرق ليبيا ترادف بالفصحى كلمة " أبي " .. وربما – أقول ربما – تحورت عن كلمة " أبتي " الفصحى أيضاً والتي تحمل نفس الدلالة مع زيادة في معنى التودد للأب والتحبب إليه حين مناداته .. إذاً فكلمة " باتي " في العامية هي كلمة " أبتي " في الفصحى ولكنها ( مبعثرة ) كما يحلو للصحف والمجلات أن تقول في لعبة الكلمات المتقاطعة ..
ما جعلني أتوصل إلى هذا الإكتشاف اللغوي " العظيم " هو طول التأمل في هذه الكلمة عندما كنت جالساً على عتبة بيتنا وسمعت أطفال جارنا يرددونها بمجرد رؤيتهم لسيارة أبيهم قادمة من مدخل الشارع فانطلقوا صوبها كالصواريخ وهم حفاة يعيدونها ويكررونها بصوت جماعي واحد ومموسق على طريقة التقطيع العروضي للشعر :
- ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) .
أي بمعنى : ( أبتي جاء ، أبتي جاء ) .. أجل .. كان هذا هو التحليل اللغوي لما قاله أولئك الأطفال .. لكنني تساءلت بعده عن التحليل " النفسي " لفرحة أولئك الأطفال وعَدْوهم نحو أبيهم بتلك الطريقة العجيبة وعن سر سعادتهم برؤيته قادماً .. وقد أجابني جارنا عندما سألته بهذا الخصوص فكانت إجابته بالنسبة لي اكتشافاً لا يقل عظمة عن " الإكتشاف اللغوي " .. ولكي أجعلكم تعيشون معي الحدث كاملاً فسأعيد الشريط إلى الوراء لنبدأ من البداية :
- ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) ، ( با .. تي .. جا .. ) .
السيارة تتوقف .. يُفتح باب السائق .. يترجل الأب فيما يتدافع الأطفال إلى الداخل من ذات الباب وفي نفس الوقت تقريباً .. يخفت صخب الأطفال رويداً رويداً ويتلاشى والأب واقف يتأملهم صامتاً .. ينزل الأطفال في صمت أيضاً .. يعود الجميع إلى داخل البيت في موكب صامت .. واجم .. ثمة خيبة أمل بدت واضحة على وجوه الأطفال والوالد معاً .. قبل أن يدخل جارنا لبيته ناديته لأستفهم :
- " بو جار ؟ .. شنو الجو ؟ " .
التفت .. تردد قليلاً .. ثم يبدو أنه حسم الأمر وقرر المجيء نحوي .. همس متنهداً وهو ينفض مكاناً على العتبة ليجلس بجواري :
- " شنو الجو ؟ " .
.. بعد محاورة مقتضبة مع جارنا فهمت أن الأطفال كانوا بانتظاره ليحضر لهم هدايا النجاح بالمدرسة والتي وعدهم بإحضارها فور قبض الراتب .. وهي – للعلم – مجرد ألعاب بسيطة .. بالونات ملونة ومسدسات بلاستيكية لرش الماء لا يفوق ثمنها كلها العشرة دنانير .. وفهمت أنه رجع من المصرف خائباً تماماً كخيبة الأطفال عندما لم يجدوا الهدايا داخل السيارة لأن المرتبات تأخرت في النزول عن وقتها المحدد لأكثر من أسبوع .. دخل جارنا إلى البيت يجر رجليه جراً وقد نودي لتناول الغداء .. وبقيت أنا أفكر وحيداً على عتبة البيت .. تأملت ملياً في سر هذه العبودية المقيتة والرق المخزي للوظيفة في بلادنا .. حاولت العثور على إجابات لتساؤلات كثيرة أخذت ترتسم في ذهني .. خلصت في النهاية إلى أننا – ومع قلة عطائنا وتفانينا – لا نتقاضى من وظائفنا ما يوازي همّ عبوديتنا لها ورِقّنا لراتبها .. لو كان الراتب مجزياً لأمكن لأحدنا على الأقل أن يحتمل " ثقالة " المدير حينما يمارس شعائره وطقوسه الصباحية المعهودة بمجرد أن يرى أحدنا مقبلاً من الباب فينظر إلى ساعته بعين ويغمزنا بالأخرى ممططاً شفتيه :
- " وين ياسيدي ؟! .. هلّ هلالك ! .. صحّ النوم ! .. ) .
علماً بأن السيد المدير لم يكن ليأتي أبكر من الجميع لولا خوف فوات تلذذه واستمتاعه بهذه " الثقالة " .. وكأن السيد المدير نسي – أو تناسى – أن يلوم إضافة للومه أولئك الموظفين " الرقيق " لتأخرهم ، أن يلوم تلك الدولة العاجزة عن توفير وسائل المواصلات العامة الرخيصة والعملية بدل مجيء أغلبهم على الأقدام أو في حافلات " الربع دينار " .. كما نسي أو تناسى أن هذه الدراهم التي يتقاضاها الموظفون أصبحت أضحوكة العالم بأسره ، والذي شهد تضاعفاً للأسعار لعشرات المرات منذ آخر تعديل في القانون الليبي للمرتبات والأجور .. فالسيد المدير في العادة يركب سيارة الدولة ويمونها مجاناً بوقود الدولة وله مصادر مالية أخرى بديلة هي في الأغلب من أموال الدولة .. فكيف تستغرب منه الثقالة إذاً ؟ ..
.. في أثناء استغراقي وإبحاري في هذه الأفكار والخواطر يرن جرس الهاتف النقال في جيبي .. على شاشة الهاتف رأيت اسم زميلي في العمل .. أجبته :
- " آلو .. خير يا .... " .
قاطعني مبشراً إياي وهو يصيح :
- " المرتبات قالوا نزلن اليوم .. والله قالوا نزلن توا .... " .
قاطعته بدوري ضاغطاً على الزر الأحمر الذي ينهي المكالمة .. الفرحة تغمرني .. وقفت .. أخذت طريقي للمصرف وأنا أعدو ولسان حالي يقول :
- " با .. تي .. جا .. " .
.. ثم تذكرت أثناء الجري - وبعد ذهاب سَوْرة الفرح - أن الوقت لا يكفي للوصول إلى المصرف قبل نهاية الدوام .. وأن زميلي لم يعلم أصلاً بقصة إحالتي " للمركز الوطني " منذ أيام .. إضافة إلى أنني لم ألبس " شبشب " النايلون الذي خلعته عند العتبة ممدداً رجلي هناك ..
توقفت .. وعدت من منتصف الشارع أجر رجليّ جراً .. حافياً كما أطفال جارنا .. خائباً تماماً كخيبتهم .. وقبل أن ألج من الباب سمعت صوت جارنا الآخر وهو يناديني محاولاً أن يستفهم :
- " بو جار ؟ .. شنو الجو ؟ ) .
الخميس، 25 يونيو 2009
البطشة
الباب الخشبي موصدٌ ومقفل من الداخل .. المرفقان على سطح المنضدة .. فيما القبضتان معقودتان على جانبي الوجه كدعامتين للرأس المطرق .. وثقل الرأس على القبضتين أدى إلى شد طرفي الجفنين لأعلى ، حتى بدت عيناه مثل أعين الصينيين .. لاشيء يكسر صمت المكان ، خلا صوت المذياع يدندن خافتاً بأغنيةٍ قديمة ..
- لا يبدو العدو قريباً ..
قالها في نفسه ، وهو يحدق ساهماً في إحدى خرائط كتاب " مباديء الجغرافيا " الموضوع أمامه فيما كان يحاول المذاكرة .
بطريقةٍ لاإرادية ، وبحركةٍ آلية صرفة ، تناول المسطرة من مكانٍ ما على المنضدة ربما ، أو ربما تحتها لم ينتبه .. ثم تَمتمَ :
- حسناً .. نحن نقبع هنا .. والعدو يربض هناك ..
أخذ يقيس المسافة بين النقطتين .. بحسب مقياس الرسم أسفل الخريطة ، كانت تفصل بينه وبين العدو آلاف الأميال . تنفس بعمقٍ مستشعراً نوعاً من الأمن والطمأنينة .. راح يتأمل منبهراً كيف أن كل ملليمتر على هذه المسطرة الصغيرة، يمثل ما يعادل أضعافَ أضعافِ المسافة من (( البرَّاكة )) التي يقطنها إلى (( كاف العشَيْشِيَّة )) حيث يرعى الماعز كل يوم . وعند هذه اللحظة بالذات ، تذكَّر (( البطشة )) التي وجدها عند هذا العصر ملقاةً بين الأعشاب قرب الكاف . أخرجها من جيب سترته:
- هل يُعقل ..؟ أن المسافة من هنا إلى حيث وجدت هذه البطشة ، والتي أقطعها لاهثاً وراء القطيع على مدى أكثر من ساعتين كل يوم ، هي فقط هذه النقطة الدقيقة التي لاتكاد تُرى بالعين المجردة على المسطرة ..؟ لا عجب إذاً فيما أسمعهم يرددونه في المذياع من أن الكرة الأرضية قد أصبحت قريةً صغيرة ..!!؟
( 2 )
أخذ يُقلِّب البطشة بين أنامله متخيلاً أنها الكرة الأرضية . وراح يتخيل نفسه واقفاً عليها بذات النسبة الحقيقية بين حجم الإنسان والكوكب .. تأمل ملياً .. انشده .. هل يُعقل ..؟.. قرَّبها إلى وجهه محاولاً رؤية حجمه وهو واقف فوقها .. لم يرَ شيئاً .. قرَّبها أكثر .. احولّلت عيناه .. أخذه الفزع .. تلاحقت أنفاسه .. انتقع وجهه وهو يهمس :
- اللعنة .. كم هو عالمٌ صغير .. العدو ليس بعيداً إذاً .. نحن على البطشة ذاتها ..؟ .. ياساتر..
على الخريطة، رأى المسطرة وقد تحولت إلى جسرٍ عظيم ، يربط ما بين "البرّاكة" وعاصمة العدو . ورأى الدبابات تعتلي الجسر من جهة العاصمة اللعينة ، متجهةً إلى البرّاكة مصوبةً المدافع نحوها . أصواتها مرعبة .. الطائـرات كذلك أقلعت صـوب البرّاكة .. رصدها تقلع من إحدى القواعد على البطشة هذه المرة .. دوي الإنفجارات يزلزل أركان البراكة .. بيانات عاجلة عن وقوع غارات بدأت تصدر عن المذياع بدلاً من الموسيقى التي توقفت فجأة ، إضافةً إلى بيانات شجب واستنكار على لسان سكرتيرة فخامة الـ " ؟؟؟ " .. إلى أين سيهرب الآن .. ؟ انتصب واقفاً .. الزعيق والعويل يملآن المكان .. ماذا يفعل .. ؟ إنه مضطربٌ يشلُّه الخوف .. كيف سيدافع ؟ الحذاء .. أجل الحذاء .. (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة )) .. أمسك برقبة حذائه الموحل وجعل يدكُّ به البطشة .. ثم تردد :
- لا ذنب لستة مليارات من سكان الأرض فيما يقترفه العدو ، لأسحقهم بحذائي الموحل . سأسحق عاصمة العدو على الخريطة .. سأباغتهم من الخلف في عقر عاصمتهم بينما تزحف الدبابات والطائرات إلى هنا ..
بدأ يدك العاصمة بشراسة وعنف .. تطايرت الأشياء من فوق المنضدة .. اشتد الضجيج .. أزيز الطائرات وهدير الدبابات وصراخ الثكالى وأناشيد المذياع الحماسية ودعاء القنوت في المساجد .. استبد به الحماس .. واصل دك العاصمة ببسالة وهو يصيح :
- " لا صوت يعلو فوق صوت المعركة " .. الله أكبر .. الله أكبر .. " وليخسأ الخاسئون " ..
( 3 )
والده يصرخ خارجاً هو الآخر ، مزحزحاً الباب الموصد والمقفل من الداخل :
- أسكت .. أسكت ياابن الكلب .. هل هذا وقت مطاردة الفئران !؟ نريد أن ننام يا " بنادم " ..
الأربعاء، 20 مايو 2009
وجئتكم من درنة بنبأ يقين
منذ أن بدأت بالإحتكاك بالملتقيات والمحافل الفكرية والثقافية في بلادنا منذ فترة ، وأنا أتفاجأ في كل مرة بأمر يصدمني .. إما سلباً أو إيجاباً .. لكنني اكتسب في كل مرة المزيد من المعرفة والخبرة كما قلت آنفاً .. أستطعت أن أكون إلماماً كافياً بالتركيبة المعقدة ( لإثنوغرافيا ) الثقافة في بلدي إن جاز التعبير .. هل تعلمون أن المثقفين عندنا " أقصد أغلبهم " ينتمون لإثنيات وعصبيات ونعرات متباينة ومتشاكسة ولكنها فكرية وليست عرقية ؟ .. في مهرجان الأسطى الأول بدرنة أيضاً تجلت تناقضات ومشاكسات هذه التركيبة المعقدة .. حتى بين مثقفي درنة أنفسهم .. نصفهم غاب عن المهرجان احتجاجاً على النصف الآخر الحاضر .. ومع ذلك يبقى مهرجان درنة موعداً للفرح نتمنى أن نرى نسخته الثانية في العام المقبل .. إستمعنا إلى قصائد رقيقة .. تناقشنا في قضايا هامة .. شاهدنا ألواناً زاهية ولوحات وصوراً رائعة وعروضاً محترمة .. التقينا .. وذلك هو المهم .
( في داخل البيت الثقافي . والشلماني وبن زابيه في آخر الصورة )
رجعت لبيتنا وفرّغت الصور على الحاسوب وأعطيتكم عينة منها .. أتمنى أن تعجبكم .. حاولت أن أتجول بكم هناك .. لعلي أكون قد وفقت ولو قليلاً .. أعرف أن معظم ثرثرتي السابقة كانت انطباعات شخصية ومشاعر خاصة .. لكنها تظل جزءاً من الحدث .. أليس كذلك ؟
إلى اللقاء قريباً ..
السبت، 16 مايو 2009
عصفور المقهى ( قصة قصيرة )
( 1 )
... طابورٌ طويلٌ من ( الخرّازين ) السودانيين على الناصية قُبالة المقهى في ساحة سوق (( الجمهورية )) . كلٌ منهمكٌ في ما بين يديه من الأحذية البالية ، محاولاً إصلاح ما أفسده طول المسير . " القهواجي " المصري جالسٌ على صندوق مشروب " البيبسي " الفارغ أمام التلفاز ، يُشاهد موقعةً حامية الوطيس بين الأهلي والزمالك ، في انتظار زبون ربما يدخل طالباً شطيرة " دحي بالتن " ..
كلُ شيءٍ في المقهى يوحي بالعدم .. بالموت .. باللاروح .. جدران متصدعة أكلتها الرطوبة . مناضد ومقاعد بلاستيكية متناثرة بغيرما انتظام . أرضية صلدة من البلاط الخشن سيء الصنع . وبضع اسطوانات غازٍ فارغةً عند الزاوية خلف ضلفة الباب المعدني الصّدئ . وعلى ذات الضلفة من الخارج عبارة مكتوبةٌ هكذا باللهجة المصرية : " خود راحتك يازمن ". لاأثر للحياة هنا .. لانبض ..!. لاألوان ..!. لادفء ..!. الجماد لوحده هو العنوان الذي يختزل الحيِّز واللحظة في آن معاً ..
( 2 )
... فجأةً يتغير كل شيء .! تعود الألوان إلى الصورة الباهتة .. تبتسم الجمادات في المقهى .. ترتعش .. تسري فيها روحٌ خفيةٌ تكاد أن تجعلها تتنفس .. حتى أسلاك الكهرباء المتشابكة في فوضىً عارمة والمتدلية من مؤخرة السقف ، توشك أن تتحول إلى أغصان نضرة لعريشةٍ حُبلى بالعناقيد . كل هذا حدث أمامي في لحظةٍ واحدة . لحظةَ أن ولج إلى المقهى كائن صغير بحجم قبضة اليد .
( 3 )
هكذا هي بعض الكائنات .. تُحيل الجحيم إلى جنةٍ بمجرد حلولها فيه . والعكس صحيح .. " الفضيل بوراغب " ، ذلك العجوز من مدينة (( مطروح )) ، والذي عمل ردحاً من الزمن راعياً لقطيعنا , يعتبر من تلك الكائنات التي تبعث الحياة في الأشياء . في ذلك اليوم منذ أعوامٍ خلت رأيته يفعل ذلك .. يومها ، إستأجرنا شاحناتٍ مخصصةً لنقل المواشي لكي تنقُل قطيعنا إلى الصحراء الجنوبية . هرباً من صقيع شتاء الساحل وطلباً للكلأ في تلك التخوم .
حين وصلنا إلى هناك ، كانت جلبة نباح الكلاب ، وسِباب سائقي الشاحنات ، والإنهماك في إنزال النعاج والعلف والأمتعة ، والعكوف على بناء الخيمة الصغيرة ، كل ذلك ، شكَّل غلالة سرابية من الغفلة لم ننتبه معها إلى شيء . ولكن .. وفور مغادرة الشاحنات والفراغ من توظيب الأمتعة ، تلاشت تلك الغلالة كاشفةً لنا عن وجه الصحراء القبيح .. حيث أطبق الصمت .. والسكون .. مفسحاً المجال لنشيجٍ مفجعٍ للريح ..
.. الوجوم بدا على الجميع .. حتى النعاج والحملان ، بدا عليها الإحساس بالشجن والغربة ، فأخذت تحدق إلينا ناصبةً آذانها الصغيرة وهي تثغو باستجداءٍ يثير الشفقة . ومما زاد من وحشة المكان ، أُفول قرص الشمس إلى الأفق الغربي وراء التلال المجدبة ، فأضفت العتمة شيئاً من الرهبة على المشهد .. وفجأةً كما في المقهى ، تبدَّى لنا وجه " بوراغب " على وميض ألسنة اللهب .. التي انبثقت من نارٍ طفق يسجرها لإعداد الشاي ، بتجاعيده وابتسامته الودودة التي نادراً ما كانت تفارق مُحياه .
( 4 )
إن ذلك العصفور الصغير بحجم قبضة اليد ، والذي راح يزقزق ويتقافز على الأرضية الصلدة ، إستحال معه كل شيءٍ في المقهى إلى فرحٍ غامر . تماماً مثلما استحالت الصحراء مع " الفضيل بوراغب " . وليس ثمةَ من شكٍ أن تلك الصحراء قد رجعت مواتاً ويـباباً كمثل ماكانت عليه حين غاب عنها " بوراغب " منذ سنواتٍ عائداً إلى مطروح .. مبعثُ هذا اليقين عندي ، هو أنني قد رأيت كل شيءٍ في المقهى قد رجع إلى مثل ما كان عليه ، بمجرد أن طار عنه العصفور الصغير مرفرفاً إلى حيث الزُرقة والإتساع ..!!
الأربعاء، 13 مايو 2009
( فنجان قهوة ) بقلم / عبدالله الشلماني
وبسبب ولهي وتعلقي بالمطالعة والكتابة واللتين أتفرغ لهما في الليل عادة طلباً لهدوء المساءات وسكينتها ، فإن القهوة تمسي حينذاك من الضرورات واللوازم .. فتجدونني أتوجه إلى المطبخ في آخر الليل لأغلي القهوة ، وربما تسببت بالضوضاء وأزعجت النيام من أهل البيت عندما تسقط مجموعة من الأواني على الأرض أو عندما أبحث عن أعواد الثقاب فأقلب المطبخ رأساً على عقب .. وكم ضحكت عندما عدت إلى البيت ذات يوم فوجدت شقيقي قد اشترى لي موقداً صغيراً ( بريموس ) وقال لي :
- " طيّب قهوتك في حجرتك وفكّنا من إزعاجك " .
قهوة " العشية " بالنسبة لي أولوية قصوى .. وعندما أكون صائماً في شهر رمضان أو غيره فالفنجان بجوار التمر والماء .. أشاهد التلفزيون أحياناً فيأتي مشهد أو صورة عابرة لقهوة أو شخص يشرب القهوة فتتحرك عواطفي تجاهها وأطالب من بجانبي أن يعد لي فنجاناً ..عندما أسافر آخذ معي مقداراً من ( البن ) تحسّباً لئلا أجد ما يناسب مزاجي منه في المكان الذي أسافر إليه .. وعندما أزور بعض الأصدقاء أو الأقارب ويقدمون لي قهوتهم – والتي نادراً ما تعجبني – أرى في عيونهم ترقّباً وعلى شفاههم ابتسامةً بانتظار تعليقي على مذاقها ، لأنهم جميعاً يعرفون قصتي مع القهوة .. لا أدري ما إذا كان عشقي للقهوة شقاءً وعذاباً أم هو متعة وانسجام .. المهم أنني أعشقها وحسب .. هل تعلمون أنني أكتب الآن هذه السطور والفنجان بجانبي ؟ .. بعد إذنكم ..لقد برد الفنجان وعلىّ الآن أن أسخنه .. " ع البريموس " ..!! إلى اللقاء ..