الأربعاء، 13 مايو 2009

مذكرات راقد ريح

( راح سوّك )
بقلم / عبدالله الشلماني
الموت ولا شك ليس نهاية للحياة بقدر ما هو بداية لحياة أخرى .. أو بالأحرى هو البداية الحقيقية للحياة .. مقدمة لولادة ثانية .. حين سنولد جميعاً من رحم الأرض بعد مخاض طويل في أحشائها .. ولادة سنواجه بعدها مصاعب جمة وأفراحاً جمة بحسب مقادير كل منا .. تماماً كالمصاعب والأفراح التي تنتظرنا بعد الولادة الأولى .. غير أن تلك التي تنتظرنا بعد الولادة الأولى مؤقتة وأقل تأثيراً ، فيما التي تنتظرنا بعد الولادة الثانية أبدية وأعظم شأناً ..
لطالما كانت هذه هي فلسفتي وقناعتي بحقيقة الموت .. والتي جعلتني دائماً أقف حياله موقف المتعايش والمتأهب لأن يجعل ما بعده مما عظم شأنه متعلقاً فقط بالأفراح .. لكن عندنا في ليبيا يبدو أن القناعات والفلسفات لا بد من تغييرها - أو على الأقل تحويرها – بين الحين والآخر .. ليس تشكيكاً ولا طعناً في الحقيقة السابقة " معاذ الله " .. وإنما تماشياً مع بعض الإستحقاقات ومرونة تجاه بعض الظروف .. هل أسمع من يسألني كيف ؟.. حسناً فاستمعوا إذاً :
توفي قريبنا بعد معاناة طويلة مع المرض زار خلالها أغلب دول الجوار .. ليس للنقاهة .. بل بحثاً عن علاج يناسب حالته العصية على "طبّ ليبيا" .. باع ( اللي فوقه واللي تحته ) ليصرف أمواله على أعتاب مستشفيات ومصحات تونس ومصر والأردن ، ثم عاد في النهاية يائساً ومنتظراً ساعة الرحيل .. جرس الهاتف الجوال يوقظني من النوم عند الساعة الثالثة فجراً ليخبرني بوفاة قريبنا مختتماً خبر النعي بقوله :

- " راح سوّك " !؟

.. ما أن أيقظت من بالبيت وأخبرتهم الخبر وتجهزنا للخروج إلا والصبح قد أسفر .. وصلنا .. إنها ساعات النهار الأولى .. الخلق يتقاطرون ويتجمعون أمام بيت المتوفى .. أصوات العبرات والنحيب تختلط بأصوات المعزين والمواسين .. تتزايد أعداد الوافدين على المكان .. تتضاعف .. يكتظ المكان .. أرتال السيارات لا تنقطع وهي تتوالى سيارة بعد الأخرى أمام الباب لتنـزل حمولتها من النساء والأطفال داخل البيت ثم لتصطف مع سابقاتها على الناصية مغلقةً الشارع على المارة .. وليترجّل سائقوها في ضوضاء وصخب وبكاء :
- " يانا عليّ يا بوي يانا عليّ .! يانا علاااااااي ياخوي ورفيقي يانا عليّ .! " .
فيما تسمع صيحات أخرى ممن فرغت شحنة بكائهم :

- " راح سوّك .. راح سوّك " .

أما نحن أقارب المتوفى فقد جلسنا مذهولين لألم حرارة الفراق .. لم نهتم لشيء ولا انتبهنا لأحد .. كلنا .. أبناء المتوفى وإخوته وأعمامه وبنو أعمامه وكل أقاربه .. لكن تبرز في مثل هذه المواقف عادة شخصيات لها صفات ومواهب ( قيادية ) هي في الأغلب من غير الأقارب .. ينتدبون أنفسهم للإتصال بتشاركيات تأجير الخيام والسرادقات والكراسي ولوازم المناسبات التي من هذا النوع .. كما يتصلون بالجزار ليفتح لنا حساب بيع لحوم بالدين طيلة أيام المأتم .. ويتفقون مع محلات المواد الغذائية و المعدات المنزلية لجلب الشاي والسكر والأرز والزيت و( الطناجر ) والأكواب والمناشف ، بل وحتى الصابون والنعناع وحفّاظات تبريد المياه و( مكبر صوت ) للنداء على زوجات المعزين حين مغادرتهم ، وبقية الكماليات مما تتطلبه وتقتضيه خدمة وجبات ومشروبات " المعزين " ورفاهيتهم .. إضافة إلى إنهاء إجراءات الدفن من موافقات رسمية وتغسيل وتكفين وإعداد ( الحفرة ) وكل شيء ..
شعرنا مع هذه المساندة القوية أن الناس يشاركوننا حزننا ومتعاطفون معنا .. يتكفلون بكل شيء .. شباب ورجال من الجيران والمعارف يلفون حول رؤوسهم "مناشف" بطريقة تشبه العمائم تعبيراً عن الجاهزية والإستنفار ويهرولون في كل اتجاه استجابة لإيماءات المعزين – بعد فراغ شحنة بكائهم – وتلبية لطلباتهم التي لا تنتهي :

- " الشاهي يا لَيْد " .. " موية مسقعة للعرب يا لَيْد " .. " تعال نظّم الكراسي يا لَيْد " .. " نادي علي أهل عمك فلان من جوّة بيش يروّحوا يالَيْد " .

انتظمنا – أقارب المتوفى – في طابور طويل على الكراسي عند مدخل السرادق مثلما طلبت منا ( الشخصيات القيادية ) حتى لا يتعب الناس في البحث عنّا لتعزيتنا .. وبين كل لحظة وأخرى ترى الطابور ينهض واقفاً ثم يجلس في منظر بهلواني مع دخول كل معزّي وذلك بمعدل 8-10 مرات في الدقيقة الواحدة .. إلى الدرجة التي دفعت ببعض المسنين منا إلى أن يظل واقفاً بدل "عذاب" النهوض والجلوس .. وكادت ألسنتنا تتهدّل إعياءً وتعباً ونحن نجامل ونجيب كل من يتعلق بأعناقنا ويقبل خدودنا بحرارة :

س - " راح سوّك " .
ج - " سوّنا وسوّك " .
س - " عظّم الله أجرك " .
ج - " أجرنا وأجرك على الله " .
س – " البركة فيكم " .
ج – " ماريت ما غيّر عليك " .

في الليلة السابعة خلت السرادقات وساد الصمت المطبق بعد أن غادر الجميع .. لم يبق إلا أهل الميت في ركن قصيّ من الخيمة ، وسط فوضى عارمة من الكراسي المبعثرة والأكواب والأواني وبقايا الأطعمة الملقاة في كل مكان .. وفيما كنت (أطقطق) بمسبحتي مطرقاً برأسي وسط هذا السكون الحزين وإذ ( بكبير القيادات ) يطل برأسه من مدخل الخيمة ، ويغمز لي بعينه موعزاً إلىّ أن ( تعال ) .. خرجت إليه فأخذ بيدي إلى العتمة واحتظنني وذرف ثلاث دمعات " ع المرحوم " ثم دسّ في جيبـي دفتراً صغيراً .. أخرجت الدفتر ونظرت فيه وبالكاد أستطعت أن أتبين وسط الظلمة أن مجموع ديون مصاريف المأتم ( ع المرحوم ) هي 8000 دينار !!؟؟ .. فزعت .. تملكني الرعب .. رفعت رأسي لأتحدث مع ( كبير الشخصيات القيادية ) ولأستفهم عن هذه الأرقام ، فإذا هو يلوّح لي مبتعداً "يكفكف" دموعه ويردد :

- " راح سوّك .. راح سوّك " !!؟؟